ثم كأنّه يقال : ما سبب نفاقهم مع وضوح الحقّ ؟ فقال تعالى : ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ عظيم من الحسد والكبر وحبّ الجاه والعناد للحقّ ، فأورث فساد أوراحهم وهلاكهم الأبديّ ، وأين هذا المرض من الأمراض الجسمانيّة التي غاية شدّتها أن تنتهي إلى الموت وفساد الجسد !
وفي الحديث : « القلوب أربعة : قلب فيه نفاق وإيمان ، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك ، وإن أدركه على إيمانه نجا ، وقلب منكوس وهو قلب المشرك ، وقلب مطبوع وهو قلب المنافق ، وقلب أزهر أجرد وهو قلب المؤمن ، فيه كهيئة السّراج ، إن أعطاه الله شكر ، وإن ابتلاه صبر » (١) الخبر.
﴿فَزادَهُمُ اللهُ﴾ بسبب ظهور الآيات ، وتوافر المعجزات ، وزيادة حشمة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وقوّة الإسلام ﴿مَرَضاً﴾ وحسدا زائدا على حسدهم ، وبغضا وعنادا أشدّ من بغضهم وعنادهم السّابق ، فإنّ الأمراض القلبية تتزايد ، والصفات الذّميمة تشتدّ إذا لم تعالج عند الأطبّاء الروحانيين وهم الأنبياء والأولياء.
ثمّ هدّدهم الله بقوله : ﴿وَلَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ بالغ ألمه غايته ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ في قولهم : آمنّا بالله وباليوم الآخر ، أو قولهم : إنّا على البيعة والعهد مقيمون.
ثمّ بالغ سبحانه في بيان غاية خبثهم وقساوتهم ببيان عدم قبولهم النّصح ، بقوله : ﴿وَإِذا قِيلَ لَهُمْ﴾ نصحا ووعظا ، والظاهر أنّ القائل بعض المؤمنين المطّلعين على فساد نيّتهم وإفسادهم ﴿لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾
قيل : كان فسادهم فيها أنّهم كانوا يمايلون الكفّار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم ، وإغرائهم عليهم ، وذلك ممّا يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.
وقيل : هو مداراتهم الكفّار ومخالطته إيّاهم ، حيث يوهم ذلك مع تظاهرهم بالإيمان ، ضعف أمر النبيّ وأصحابه ، فيصير سببا لطمع الكفّار فيهم فتهيج الفتن والحروب بينهم.
وقيل : كانوا يدعون في السّرّ إلى تكذيب النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ويلقون الشّبه في قلوب المؤمنين.
وعن ابن عبّاس : أنّ المراد بالإفساد إظهار معصية الله (٢) . فإنّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسّك الخلق بها زال العدوان ولزم كلّ شأنه ، فحقنت الدّماء ، وضبطت الأموال ، وحفظت الفروج ، فكان ذلك صلاح الأرض وأهلها ، أمّا إذا أهملت الشريعة وأقدم كلّ أحد على ما يهواه ، اشتعلت نوائر
__________________
(١) الكافي ٢ : ٣٠٩ / ٢.
(٢) تفسير الرازي ٢ : ٦٦.