بقوله : ﴿أَوْ﴾ مثل حال المنافقين بعد نزول القرآن الذي به حياة القلوب وتنوّر الأبصار ﴿كَصَيِّبٍ﴾ قيل : إنّ المراد مثل حال ذي صيّب وصاحب مطر شديد ، نافع للحيوانات ونبات الأرض ، بل جميع الموجودات الجسمانيّة ، نازل ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ وهو السّقف المطلّ ، أو جهة العلوّ ، وذكر هذا القيد بناء على إرادة السّماء المعروفة ، لعلّه للإشعار بأنّ أصل جميع الأمطار نازل منها ، كما في كثير من الأخبار خلافا لمن يقول بأنّها تتكوّن من الأبخرة (١) ، وأمّا بناء على إرادة جهة العلوّ فلعلّه لإظهار إحاطته بجميع الأرض ، سهلها وجبلها حال كونه مستقرّا ، ﴿فِيهِ ظُلُماتٌ﴾ ثلاث : ظلمة السّحاب ، وظلمة الشدّة والتّكاثف ، وظلمة اللّيل ، ﴿وَ﴾ فيه ﴿رَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ .
ثمّ كأنّه يقال : ما يكون عمل أصحاب الصّيّب في هذه الحال ؟ فيقال : إنّهم ﴿يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ﴾ جميعها ويدخلونها ﴿فِي آذانِهِمْ﴾ من شدّة الدّهشة والوحشة ، ولا يكتفون بجعل الأنامل ، كما هو المعتاد والممكن ، وفيه غاية المبالغة في حرصهم على سدّ مسامعهم خوفا ﴿مِنَ الصَّواعِقِ﴾ قيل : هي رعود هائلة تنقضّ منها شعلة نار محرقة ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ وتحرّزا من الهلاك بسبب انشقاق قلوبهم ، وطلبا للسّلامة منه ﴿وَاللهُ﴾ العظيم القادر العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء ﴿مُحِيطٌ﴾ ومحدق بقدرته وعلمه ﴿بِالْكافِرِينَ﴾ المنافقين وغيرهم ، عالم بأسرارهم ، قادر على عقوبتهم.
ثمّ كأنّه قيل : كيف يكون حال أصحاب المطر حين لمعان البرق ؟ فقال تعالى ﴿يَكادُ﴾ ويقرب ﴿الْبَرْقُ﴾ اللامع من السّحاب ﴿يَخْطَفُ﴾ ويستلب بسبب شدّة ضوئه ﴿أَبْصارَهُمْ﴾ ونور ناظرهم.
ثمّ كأنّه قيل : فما يكون عملهم في هذا الحال ؟ فقال تعالى : ﴿كُلَّما أَضاءَ﴾ البرق ﴿لَهُمْ﴾ في تلك الظلمات ، وأنار طريقهم ومسلكهم ﴿مَشَوْا فِيهِ﴾ وخطوا خطوات يسيرة. قيل : عبّر عن سيرهم بالمشي دون السّعي والعدو اللذين فوق المشي للإشعار بشدّة دهشتهم ، بحيث لا يقدرون عليها ﴿وَإِذا﴾ خفي البرق و﴿أَظْلَمَ﴾ الطريق ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وصار مسلكهم مظلما ﴿قامُوا﴾ ووقفوا في أماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة ، متحيّرين مترصّدين لحظة اخرى ، عسى أن يتيسّر لهم الوصول إلى المقصد ، أو الالتجاء إلى ملجأ عاصم لهم ﴿وَلَوْ شاءَ اللهُ﴾ وأراد ﴿لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ﴾ فيبقوا في تلك الأهوال والشدائد مأخوذا عنهم أسباب التخلّص ، إذ المبدأ للخلاص هو الإدراك ،
__________________
(١) قوله تعالى : ( مِنَ السَّماءِ ) إشارة إلى جهة نزول المطر ، أي يأتي من جهة السماء ، وليس فيه إشارة إلى أن السماء مبدأ تكوّنه ، بل الثابت علميا أن مبدأ تكون المطر من الأبخرة.