ومعاشا مأكولا وملبوسا.
فانظر إلى حسن ترتيب استدلاله سبحانه على استحقاقه العبادة ووجوبها ، فإنّه استدلّ أوّلا بأقرب نعمه إلى العبد ، وهو إيجاده وتربيته ، ثمّ الأقرب وهو خلق الأصول من الآباء والأمّهات ، ثمّ الأقرب وهو نعمة المقرّ والمسكن وهو الأرض ، ثمّ بعدها بنعمة السّماء التي تكون سقفا ومدارا للكواكب ، ومبدءا لنزول الخيرات ، ثمّ بنعمة الثّمرات الحاصلة من بركات السّماء والأرض لتكون معاشا لهم.
ومن الواضح أنّ كلّ واحد من هذه النعم [ هي ] آيات وحدانيّته وقدرته وعظمته وحكمته ، ولذا رتّب عليها النهي عن التشريك ، بقوله : ﴿فَلا تَجْعَلُوا﴾ ولا تتّخذوا ﴿لِلَّهِ أَنْداداً﴾ وشركاء في الخلق والرّزق والعبادة ﴿وَأَنْتُمْ﴾ أيّها العقلاء ﴿تَعْلَمُونَ﴾ أنّ الأجسام التي اتّخذتموها آلهة لا يقدرون على شيء ، والقول الباطل من العالم ببطلانه أقبح وأفضح.
قيل : من تأمّل في هذا العالم وجده كالبيت المعدّ ، فيه كلّ ما يحتاج إليه ساكنه ، الأرض بساطه ، والسّماء سقفه ، والنجوم مصابيحه ، والإنسان ساكنه ، وضروب النباتات والحيوانات والمعادن مهيّآت لمنافعه ، مصروفة في مصالحه ، فتدلّ هذه الجملة على أنّ هذا العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل ، وقدرة غير متناهية ، وحكمة بالغة.
ومن لطائف ما قيل : إنّ الله تعالى لمّا خلق السّماء والأرض ، أوقع بينهما شبه عقد النكاح ، فالسّماء مطلّة على الأرض ، فينزل الماء من المطلّة على المقلّة المفترشة ، فيخرج من بطنها الحيوانات شبه النّسل ، ثمّ تربّيها في حجرها كالأمّ ، وتطعمها ، وتلبسها من ثمارها ، وتحفظها من الحرّ والبرد ، فهي رؤوفة بنا حين نعيش في حجرها ونربّى بتربيتها ، فاذا انتقلنا من حجرها إلى بطنها تكون أرأف بنا بشرط أن ندخل في بطنها كما خرجنا من بطن أمّنا طاهرين من الذنوب ، مهذّبين من الرّذائل والعيوب.
في أنّ للشرك مراتب كثيرة وقلّما يخلو الإنسان منه.
ثمّ اعلم أنّ للشرك مراتب كثيرة ، وقلّما يكون الانسان بريئا منه ، روي : « أنّه أخفى في امّتي من دبيب النّملة على الصّخرة الصّمّاء » (١) .
وفي حديث طويل ، عن معاذ : « ويصعد الحفظة بعمل عبد من زكاة وصوم وصلاة وحجّ وعمرة وخلق حسن ، وذكر لله ، ويشيّعه ملائكة السّماوات حتّى يقطعوا الحجب كلّها إلى الله
__________________
(١) تفسير القمي ١ : ٢١٣ « نحوه » .