مفارقة العشيرة والوطن المألوف ، ولو قدروا على إتيان سورة تماثله في الفصاحة والبلاغة لأتوا بها ، مع شدّة عداوتهم وحرصهم على معارضته وإبطال أمره ، وكمال جدّهم في إطفاء نوره ، وهم مهرة فنّ المحاورة والكلام ، ولم يدانهم أحد من الفصحاء مدّ الدّهور والأيّام ، علمنا أنّ الإتيان بمثله فوق طاقة البشر ، وأنّ كلّ سورة من الكتاب العزيز معجزة قاهرة ، وتصديق دعواه من الله الأكبر.
في إثبات كون القرآن معجزا وبيان وجوه إعجازه
والحاصل : أنّه لا شبهة في أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله تحدّى العرب ، بل العالمين بالقرآن في هذه الآية المتضمنّة للتهكّم بآلهتهم بقوله : ﴿وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وتقريعهم بقوله : ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ وتوعيدهم بالعذاب الشديد بقوله : ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ﴾ ونسبتهم إلى الكفر بقوله : ﴿أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾
ولا شبهة أنّ أهل ذلك العصر مع بلوغهم في علم الفصاحة غايته ، وفي فنّ الكلام نهايته ، بحيث لم يأت الزّمان بمثلهم ، ولم يتيسّر للدّهر تربيته عدلهم ، وفاقوا الأوّل والآخر ، وفضّلوا على الماضي والغابر ، لم يعارضوه بالمثل في شدّة عداوتهم للرّسول ، ونهاية تأنفهم عن تلقّي قوله بالقبول ، حتّى هاجروا الأوطان ، وفارقوا الأولاد والإخوان ، وهجروا العشائر ، وأسلموا النفوس والمهج للأسنّة والبواتر ، ولو كان في وسعهم إتيان مماثل لأقصر سورة من القرآن ، أو مقارب له في حسن النّظم وملاحة البيان ، لأتوا به ولم يتحمّلوا الشدّة والعتب (١) ، وأفحموه وفضحوه بلا نصب ، وأبطلوا أمره ، وأطفأوا نوره ، وأخذوا بنفسه ، واستراحوا من بأسه ، فعند ذلك لم يمكن أن يخضرّ له عود ، وأن يقوم لدينه عمود.
فلمّا رأينا أنّه قد غلب نوره الظلام ، علمنا بعجز جميع فصحاء عصره عن معارضته بالكلام ، كما أنّا لمّا علمنا بعجز سحرة موسى عن معارضته وإتيان مماثل لما أتى به مع تحدّي موسى بإلقاء عصاه وصيرورتها ثعبانا ، علمنا بكونه صادقا في دعواه ، مع أنّه لو عارضوه بسورة تماثله لوصلت الينا بالنقل المتواتر ، واثبتت في الزبر والدفاتر ، لتوفّر الدّواعي في نقله كما توفّرت في نقل القرآن.
على أنّه قد تواتر اعترافهم بالعجز ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى : عن قولهم : ﴿إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ*﴾(٢) و﴿إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ﴾(٣) و﴿اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
__________________
(١) كذا ، ولعلّها تصحيف التعب.
(٢) المائدة : ٥ / ١١٠ ، الأنعام : ٦ / ٧.
(٣) المدّثر : ٧٤ / ٢٤.