على جمع الذّرّات المتفرّقة في اللّقمة الواحدة ، ثمّ تفريق ذرّات فضلتها في جميع أعضاء الجسد ، ثمّ جمعها من تلك الأعضاء في وعاء واحد ، ثمّ خلقها شخصا عاقلا بصيرا سميعا ، كيف يعجز عن جمع أجزاء ترابه المتفرّقة بالموت وخلقها مرّة اخرى بصورتها الأولى ؟ ! بل هو سبحانه بالقدرة على هذا الجمع والخلق أحرى وأولى ، وقد نطق الكتاب العزيز بهذه الحجّة في مواضع :
منها : في سورة الحجّ قال تعالى : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ إلى قوله : ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً﴾ إلى قوله : ﴿ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾(١) .
ومنها : قوله في الواقعة : ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ﴾(٢) إلى غير ذلك من الآيات.
ثمّ تفكّر في قدرة الله في خلق الأشجار والزروع كما نبّه الله عليه بقوله : ﴿أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ﴾(٣) حيث إنّ للأشجار نواة ، وللزروع حبوبا ، ولكلّ من النواة والحبوب أقسام وأشكال ، منها مطوّل مشقوق كنواة التّمر وحبّ الحنطة والشّعير ، ومنها غير مشقوق كالأرزّ ، ومنها مثلّث ، ومنها مربّع ، ومنها مدوّر إلى غير ذلك من الأشكال.
فإذا وقع الحبّ في الأرض واستولت عليه الرطوبة ، مع أنّ مقتضى الطبيعة أن يتعفّن ويفسد ، ومع ذلك يحفظه الله ويربّيه بين المفسدات ، ثمّ إذا ازدادت الرطوبة يظهر في رأس الحبّ الطويل ثقب تخرج منه ورقة طويلة كزرع الحنطة والشّعير وأمثالهما ، وأمّا الحبّ غير الطّويل فينفلق فلقتين فيخرج منه ورقتان ، وأمّا النّواة فمع ما فيها من الصّلابة التي يعجز عن فلقها أغلب النّاس فتنفلق بإذن الله ، فيخرج منها شجران : أحدهما صاعد إلى السّماء ، له أوراق وغصون وثمار ، لكلّ جزء منه لون وطعم وطبيعة ، مغاير لسائر الأجزاء ، ؤ الشجر الآخر هابط غائص في أعماق الأرض ، مع اتّحاد طبيعة النّواة وعنصرها الماء والهواء والتراب.
ثمّ انظر كيف أودعت القدرة في تينك الشجرتين الأجزاء الناريّة التي تباين ما استقرّت فيه من جميع الجهات ، فإنّ الشجرتين هابطتان كثيفتات رطبتان باردتان ظلمانيّتان ، والنار صاعدة لطيفة
__________________
(١) الحج : ٢٢ / ٥ - ٧.
(٢) الواقعة : ٥٦ / ٥ - ٧.
(٣) الواقعة : ٥٦ / ٥٨ و٥٩.