الغائيّة وإن كانت بوجودها العلمي بتقدمة على معلولها ولكن بوجودها الخارجيّ متأخّرة عنه.
فعلى هذا ، لمّا علمنا أنّ وجود السّماوات بما فيها من الكواكب والأرض وما فيها من الجبال والبحار ، سابق على وجود الإنسان ، علمنا أنّ جميعها مقدّمات لوجوده ومخلوقات له ، وأمّا النّباتات وسائر الحيوانات فلمّا رأينا أنّ الإنسان قاهر على جميعها ، منتفع بأغلبها ، أكمل من كلّها ، علمنا أنّه علّة غائيّة لجميعها ، لأنّ الأشرف الأكمل لا يمكن أن يكون مقدّمة للأخسّ الأنقص ، ولا يعقل أن يكون الأخسّ علّة غائيّة لوجود الأشرف ، فثبت أنّ غير الإنسان من الموجودات الجسمانيّة مخلوق له ، وهو علّة غائية لإيجاد غيره.
وأمّا قولنا : إنّه لو لا المعاد لكان خلق الإنسان عبثا ، فلأنّه لا بدّ أن يكون لخلق الإنسان الذي هو اعجوبة الكون ، وآية عالم الملك والملكوت من غرض مهمّ لائق بالحكيم ، وصلاح ملزم في نظر العقل السليم ، ولا يمكن أن يكون الغرض والمصلحة في خلقه هو التعيّش في هذا العالم مدّة قليلة ، والتمتّع بأمتعتها الخسيسة الرّذيلة ، مع شوبها بالآلام الكثيرة والأسقام الوفيرة ، والبلايا والمنايا ، والهموم والغموم ، والمضارّ والمشاقّ ، أضعاف ما يصيب من اللّذّة والتمتّع ، ثمّ يكون موت وانعدام ، لبداهة عدم صلاحيّته لأن يكون غرضا للحكيم في هذا الخلق القويم الذي أمر ملائكتة بالسجود له (١) الذي هو أعلى مراتب التّعظيم.
فإذن لا يتصوّر غرض آخر في خلقه إلّا تحصيله الكمالات النفسانيّة ، واكتسابه الملكات الجميلة الروحانيّة وارتقاؤه إلى درجات القرب والعبوديّة بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة ، ولا يتمّ إلّا بجعل التكاليف والأحكام المولويّة وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فلو لم يكن عالم آخر يجزى ويثاب فيه المطيع ، ويجزى ويعاقب فيه العاصي ، لزم كونهما متساويين ، وعدم المزيّة في البين ، بل كون العاصي أحسن حالا من المطيع لتلذّذه بالمشتهيات النفسانيّة واستفادته بالأمتعة الدنيويّة أزيد من المؤمن المطيع ، لكونه مدّة عمره في تعب الطّاعة ومشقّة الزهد والرياضة.
فثبت أنّه لا بدّ من عالم آخر يجد المطيع فيه ثواب طاعته ، والعاصي تبعات معصيته ، قال تعالى : ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾(٢) .
[٢] ومنها : أنّه لا شبهة أنّ الإنسان خلق مدنيّا بالطبع ، بمعنى أنّه لا يمكن لكلّ فرد منه التعيّش إلّا
__________________
(١) في النسخة : بسجوده.
(٢) النجم : ٥٣ / ٣١.