بالاجتماع مع غيره والاستعانة بسائر بني نوعه لكثرة حوائجه وعدم إمكان قيام كلّ واحد بجميعها ، ثمّ أنّه من البديهي أنّ طباع بني آدم باقتضاء الجهة الحيوانيّة مجبولة على الظلم والعدوان ، ولذا نرى الغالب منهم بين ظالم ومظلوم ، وشاتم ومشتوم ، وقاتل ومقتول ، وغارّ ومغرور ، وحاصر ومحصور ، وكثيرا ما لا يقدر المظلوم في هذه الدنيا على الانتصار من ظالمه ، ويبقى الظلم في هذا العالم بلا مكافاة ومجازاة ، ومقتضى العدل والحكمة انتصاره تعالى من الظالم للمظلوم ، فلو لم يكن عالم آخر يؤخذ الظالم فيه بظلمه ، ويجزى المظلوم على صبره وكظمه ، لزم خلاف العدل وعدم قيامه تعالى في عباده بالقسط ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
[٣] ومنها : أنّ من الواجب في النّظام الأتمّ بعث الرسل وجعل التكاليف على العباد ، لأنّهما من اللطف الواجب على الله تعالى ، ومن الواضح أنّه لو لا جعل المجازاة على موافقة التكاليف ومخالفتها ، والوعد بالثواب والوعيد بالعقاب على طاعتها وعصيانها ، لكان البعث والتكليف لغوا ، لعدم إمكان اتّباع الامم رسلهم ، وتحمّل النّاس مشقّة الطّاعة والتزامهم بالقوانين الإلهيّة ، لعدم الداعي في النفوس إلّا الخوف والطمع ، فلا بدّ في الحكمة والنظام الأتمّ من جعل الثّواب والعقاب على الطاعة والمعصية ، إمّا في هذا العالم ، أو في عالم آخر ، ولمّا لم يكن في الدنيا ، فلا بدّ من الحشر في عالم آخر حتّى ينال فيه المستحقّ ما استحقّه من الجزاء ، ولذا لم يبعث رسول إلّا وأخبر بالحشر والنّشر بعد الموت ، والثواب والعقاب في عالم الآخرة.
في إثبات وجوب كون المعاد جسمانيا بالأدلة العقلية
ثمّ اعلم أنّ هذه الوجوه وإن كانت لا تفي بإثبات أزيد من المعاد في الجملة ، والمتيقّن منه المعاد الرّوحاني ، ولذا قال جمع بأنّه لا طريق للعقل إلى الجسمانيّ منه ، بل طريق إثباته منحصر بالنقل ، إلّا أنّ الحقّ أنّه أيضا ممّا يحكم به العقل لوجوه :
[١] منها : أنّه لا شبهة أنّ حدّ استحقاق الثّواب والعقاب لا بدّ أن يكون في حكم العقل على حدّ حسن العمل وقبحه ، ولا ريب أنّ منشأهما قد يكون في نفس العمل مع قطع النّظر عن الجهات الخارجيّة الطارئة ، كحسن العدل والإحسان ، وقبح الظلم والعدوان ، وقد يكون بالنّظر إلى الجهة الخارجيّة الطارئة ، وقد يكون للجهتين معا كصيرورة عمل قبيح متعلّقا لنهي المولى ، لبداهة أنّ حقّ المولى على العبد إطاعة أوامره ونواهيه ، فإذا خالف حكمه كان ظالما عليه.
ثمّ لا شبهة أنّه تتفاوت الجهات الأوّلية في منشئيّتها لانتزاع الحسن والقبح شدّة وضعفا ، لبداهة