نفوسهم من آيات نبوّة موسى وعيسى عليهماالسلام في نفوس أتباعهما.
مع أنّ القرآن العظيم أوجد في نفوس العرب آثارا لم توجدها (١) معجزات سائر الأنبياء ، حيث إنّه أخرجهم بسماعه من ظلمات الجهالة وغمرات الضلالة ، بعد تماديهم فيها وتمرّنهم عليها ، إلى نور الهداية وأوج الحكمة ، وصيّرهم بعد أمّيّتهم علماء حكماء ، بل كادوا أن يكونوا من الحكمة والمعرفة أنبياء ، وبلغوا من العلم إلى أن صاروا بعد وحشيّتهم أساتيذ الأمم ، وسادة العجم.
انظر إلى حواريّي عيسى مع كونهم أكمل من آمن به ، وأعلم بما جاء به ، قالوا : ﴿يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ﴾(٢) وأطفال أمّة نبيّنا صلىاللهعليهوآله في زمانه كانوا يقولون : إنّ الله على كلّ شيء قدير ، ولا يعجز الله شيء في الأرض ولا في السّماء.
والحاصل أنّ العاقل المتأمّل في آيات (٣) القرآن المجيد ، لا يرتاب في أنّها كلام الله ، وأنّها أعظم المعجزات ، وقد أفرد جمع كثير من علماء الاسلام إعجاز القرآن بالتصنيف ، ومع ذلك حاروا في كشف حجب البيان عن وجوه إعجازه بعد أن ثبتت عندهم بالوجدان والبرهان.
فالمنصف يرى القرآن في الهداية والبيان كالروح في الجسد ، يعرف بمظاهره وآثاره ، ويعجز العارفون عن بيان حقيقته وكنهه. فإنّ قريشا (٤) كانت أفصح العرب لسانا ، وأعذبهم بيانا ، وأخلصهم لغة ، وأرفعهم عن الرداءة لهجة ، ومع ذلك كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يحتجّ عليهم بالقرآن صباحا ومساء ، ويحثّهم على أن يعارضوه بسورة واحدة أو بآيات يسيرة ، فكلّما ازداد تحدّيا لهم بها وتقريعا عليهم ، كشف عجزهم عن نقصهم ما كان مستورا (٥) ، وظهر منهم ما كان خفيا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجّة ، قالوا : أنت تعرف أخبار الأمم ، ولذا تقدر على ما نعجز عنه ، فقال : جيئوا بها مفتريات ، ولذا لم يأت بمثله أريب عن معارضة ، ولم يبرم ذلك خطيب ، ولا طمع فيه شاعر ، ولا تكلّفه طبع فصيح ماهر ، ولو تكلّفه لظهر ذلك ، فدلّ ذلك على عجز القوم عن معارضته مع كثرة كلامهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أتباعه.
ومن الواضح أنّهم لو جاءوا بسورة واحدة أو آيات يسيرة بدل الهجاء ومعارضة الشعراء ، لكان
__________________
(١) في النسخة : يوجدها.
(٢) المائدة : ٥ / ١١٢.
(٣) في النسخة : الآيات.
(٤) في النسخة : القريش.
(٥) كذا ، ولا تخلو العبارة من اضطراب. ولعلّها : كشف عجزهم ما كان مستورا من نقصهم.