حياة وموت.
﴿وَ﴾ في أنّه تعالى ﴿بَثَ﴾ في الأرض وفرّق ﴿فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ من الانسان وسائر الحيوانات التي تدبّ وتتحرّك على وجه الأرض ، فإنّ من تفكّر في خلق الحيوانات خصوصا الانسان ، تحصل له معرفة كاملة بوحدانيّة صانعه وكمال حكمته ، فلينظر العاقل إلى بدو خلقته ؛ كان نطفة متشابهة الأجزاء ، ثمّ بعد استقرارها في الرّحم صارت دما متشابه الأجزاء ، ثمّ صار بعد مدّة بعضه عظما ، وبعضه لحما ، وبعضه عصبا ، وبعضه عروقا ، وبعضه شحما ، وبعضه جلدا ، مع كون جميع هذه الأجزاء متخالفات بالطّبع والوصف والفائدة ، حيث إنّ لكلّ منها فوائد عظيمة غير ما للاخرى.
عن أمير المؤمنين عليهالسلام : « سبحان من بصّر بشحم ، وأسمع بعظم ، وانطق بلحم » (١) .
في بيان بعض عجائب خلقة الانسان
ثمّ لينظر إلى عجائب تركيب جسده ، فإنّ من راجع علم التّشريح وجد فيه من العجائب ما تحار فيه العقول وتضلّ فيه الأفهام ، ثمّ ليتفكّر في أنّه بعد انفصاله عن أمّه طفلا لو وضعت على فمه وأنفه خرقة تمنعه من التنفّس لمات في ساعته ، ومع ذلك بقي في رحم امّه حيّا من غير تنفّس مدة قريبة من خمسة أشهر ولم يمت.
ثمّ من عجائب خلقة الانسان أنّه بعد ولادته يكون من أضعف الحيوانات بطشا وأقلّها إدراكا ، حيث إنّه لا يميّز بين امّه وغيرها ، ولا بين الماء والنّار ، والنّافع والمضرّ ، والملذّ والمؤذي ، ثمّ يصير بعد استكماله أعقل من سائر الحيوانات وأذكى من جميع موجودات عالم الأجسام ، بل يصير بإعمال القوّة النظريّة العمليّة جوهرا قدسيّا وعالما عقليّا ، مع أنّ أولاد سائر الحيوانات أقوى شعورا وأشدّ بطشا منه حال صغره. ومقتضى الطّبع أنّ كلّ ما كان في صغره وبدو أمره أذكى وأعقل وأبطش ، كان في كبره وأوان استكماله أكمل في تلك الصفات (٢) ، وليس هذه المزيّة للإنسان إلّا من عطايا القادر الحكيم المنّان.
ثمّ من عجائب خلق الانسان كثرة اختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم وأمزجتهم وأخلاقهم ، وكيفية أشكالهم وأصواتهم بحيث لا يكاد يرى فردان من الإنسان متماثلين في الشّكل وكيفيّة
__________________
(١) تفسير الرازي ٤ : ١٩٩.
(٢) والانسان على الضدّ من ذلك ، ويؤيده ما جاء في الحديث عن العبد الصالح عليهالسلام : « تستحبّ عرامة الصبي في صغره ليكون حليما في كبره ، ثمّ قال : ما ينبغي أن يكون إلا هكذا » الكافي ٦ : ٥١ / ٢.