عبد الله بن مسعود ، وأبيّ ابن كعب وغيرهما ، ختموا القرآن على النبيّ صلىاللهعليهوآله عدّة ختمات ، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور ، ولا مبثوث ، وذكر أنّ من خالف في ذلك [ من ] الإماميّة والحشويّة لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته (١) .
ولعمري ، إنّه رضوان الله عليه أبان الحقّ وأجاد ، وأتى بما فوق المراد ، وإن قال الفيض رحمهالله بعد نقله : لقائل أن يقول : كما أنّ الدواعي كانت متوفّرة على نقل القرآن وحراسته من المؤمنين ، كذلك كانت متوفّرة على تغييره من المنافقين المبدّلين للوصيّة ، المغيّرين للخلافة ، لتضمّنه ما يضادّ رأيهم وهواهم (٢) .
أقول : نعم ، ولكن كان توفّر دواعيهم على التغيير ، كتوفّر دواعيهم على إطفاء نور النبيّ صلىاللهعليهوآله وإبطال أمره ، فكما لم ينالوا بمقصودهم في أمر النبوّة لحفظ الله وتأييده ، وقوّة المسلمين وكثرتهم بحيث صار المنافقون بينهم كالشّامة السوداء في الثور الأبيض ، لم ينالوا من القرآن ما كان في قلوبهم من الغرض ، بل كان دون نيلهم إليه خرط القتاد.
ثمّ قال الفيض رحمهالله : والتغيير فيه إن وقع ، فإنّما وقع قبل انتشاره في البلدان ، واستقراره على ما هو عليه الآن ، والضبط الشديد إنّما كان بعد ذلك ، فلا تنافي بينهما (٣) .
أقول : قد ثبت أنّ القرآن كان مجموعا في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله وكان شدّة اهتمام المسلمين في حفظ ذلك المجموع بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله وفي زمان احتمل بعض وقوع التحريف فيه ، كاهتمامهم في حفظ أنفسهم وأعراضهم ، ومن الواضح أنّه لم ينتشر الاسلام في بقاع الأرض وأقطارها إلّا بانتشار الكتاب المجيد فيها ، حيث إنّ إعجاز القرآن دعا الناس إلى الاسلام والإيمان بخاتم النبيّين صلىاللهعليهوآله ، بل كان نشر الكتاب وشيوعه بين النّاس أكثر من نشر الإسلام ، إذ الكفّار المعاندين للدّين ، لشدّة (٤) إعجابهم بآيات الله وسور القرآن ، كانوا يحفظونها ويتلونها أكثر من حفظهم وقراءتهم لقصائد (٥) شعراء العرب كامرىء القيس وأضرابه ، وخطب الفصحاء ، مع شيوع قوّة الحافظة في أهل ذلك العصر بحيث كان كثير منهم يحفظون الخطب الطوال بسماعها مرّة واحدة ، ولذا كانت العادة مقتضية لأن تكون كلّ آية وسورة في
__________________
(١) مجمع البيان ١ : ٨٣ ، تفسير الصافي ١ : ٤٧.
(٢) تفسير الصافي ١ : ٤٨.
(٣) تفسير الصافي ١ : ٤٨.
(٤) في النسخة : بشدّة.
(٥) في النسخة : من قصائد.