فأما قوله : كيف يكون في ملكه ما لا يشاء ، وأن ذلك يدل على كونه عاجزا؟
فالجواب : أنه إنما كان يدل على العجز لو أراد المنع من ذلك ، ولكنه لو منع لبطل التكليف ولم يستحق المحسن ثواب الإحسان ، ولا المسيء عقاب الإساءة ، وإنما أمر سبحانه تخييرا ، ونهى تحذيرا ، فكلف يسيرا ولم يكلف عسيرا ، فله الحمد بكرة وأصيلا ، والدار الآخرة دار الجزاء ، وهذه الدار دار العمل لمن برم الزاد ، وقدم الاستعداد.
وأما قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٩٩] ، وما شاكله من الآيات فذلك مستقيم ، ومعناه أنه لو شاء إكراههم على الإيمان لآمنوا كرها لا طوعا ، وكان التكليف يرتفع وتنتقض الحكمة ، ويزول الغرض بالتخيير والتمكين ، ولا يفرق بين المسيء والمحسن ، وقد قال تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧] ، وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : ٢١٤] ، وقال : (الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ١ ، ٢] ، فلولا الإحسان والتخيير لم يتفاضل الناس في المنازل ، ولو عجل تعالى عقوبة العاصين لما عصي ، ولو عجل ثواب المطيعين لأطاع الجميع رغبة في العاجل ، لكنه جعل الجميع غيبا آجلا ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين ، والمراد ظهور المعلوم وليقع الاستحقاق ، وإلا فهو تعالى علام الغيوب يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن كيف كان يكون ، وما كان لو لم يكن كيف كان يكون ، ولكنه ليس يصلح في الحكمة أن يعاقب بعلمه ولا يثيب بعلمه قبل وقوع الفعل من العبد ؛ لأنه لا يستحق التعظيم والثواب ، والاستحقاق والعقاب ، إلا على فعله وعلمه تعالى غير فعل عبده.