ولعلّ المراد من الختم والسمة الظلمة المحيطة بقلوبهم بسبب تماديهم في الكفر وإصرارهم على العصيان ، يراها كلّ من له بصيرة نافذة ، وإسناده إلى الله لكونها بخذلانه إيّاهم ، وهو من أشدّ العقوبات ، فإذا انتهى حال قلوبهم إلى أعلى مرتبة القساوة والظلمة فلا يمكن إيمانهم إلّا بالقسر والإلجاء المنافيين للتّكليف ، وفي تنكير الغشاوة إشعار بأنّها ليست من الغشاوات العاديّة.
في بيان معنى الاختيار وحقيقته
إن قيل : على هذا كان تكليفهم بالايمان بعد الختم تكليفا بغير مقدور وهو محال.
قلنا : مع ذلك كونهم مكلّفين بالايمان قادرين عليه مختارين فيه ، من أوضح الواضحات ، وأبده البديهيّات.
وتوضيحه أنّ القدرة عبارة عن قوّة في الجوارح ، وخصوصيّات فيها ، لو أراد صاحبها عملا تمكّن بها من إيجاد ذلك العمل ، ولذا لا تضاف إلّا إلى الأفعال الجوارحيّة الإراديّة بالبداهة. فكلّ عمل يكون من مبادئ وجوده الإرادة ، يكون من مبادئ وجوده الإرادي القدرة ، وكلّ ما لا يكون من مبادئ وجوده الإرادة ، لا يكون مقدورا ، فالقدرة بوجودها العلمي أو الاحتمالي من شرائط تحقّق الإرادة ، وصدور الفعل عن الاختيار.
وعلى هذا لا تكون نفس الإرادة ومبادئها من العزم والجزم ممّا يضاف إليها القدرة ، لعدم كونها إراديّة ، لوضوح أنّ الإرادة لا توجد بأعمال الجوارح ، بل هي معلولة للدّاعي ، وهو علم الفاعل بصلاح الفعل ، وهذا يختلف باختلاف الأنظار الناشئ من اختلاف مراتب العقول والشّهوات ، ومن البديهيّ أنّه لا يعتبر في صحّة التّكليف أن يكون عقل المكلّف في أعلى مرتبة الكمال ، بحيث لا يصير مغلوبا للشّهوة أبدا ، فإنّ هذه مرتبة العصمة.
والحاصل : إنّ الدّاعي المؤثرّ في الإرادة تابع لقوّة العقل وضعفه ، والعلم بالصّلاح في المراد يكون بنظر الفاعل ، فالدّواعي الحسنة معلولة لقوّة العقل وطيب الطّينة وجودة النّظر وكمال البصيرة ، والدّواعي السيئة منبعثة من ضعف العقل وخبث الطّينة وغلبة الشّهوة وقصور النّظر وعدم البصيرة.
فاذا كان الطبع مجبولا على رذائل الأخلاق والصّفات ، والنّفس معيوبة ومغمورة في الظلمات ، والعقل ضعيفا مغلوبا للشّهوات ؛ فلا محالة يصير القلب مغلوبا لا يستقرّ فيه جواهر الحكم ، والبصر محجوبا لا يميز النور من الظّلم ، فعند ذلك يتيه من هذا حاله في وادي الجهل والغواية ، ولا يرجى منه الرّشد والهداية ، ولا ينقدح في قلبه إرادة الخير والصّلاح ، ولا يصدر منه خيرة الفوز والفلاح ، ويكون