أضلّ من الأنعام ، ويتأنّف من الانقياد للملك العلّام ، ويفتخر بعبادة الأصنام ، وتكون لذّته في الشرّ والفساد ، وشوقه إلى الظلم على العباد.
ومن الواضح أنّ جميع ذلك بقدرته وإرادته ، إذ القدرة كما قلنا ليست إلّا التمكّن من إيجاد ما أراد فعله أو ترك ما أراد تركه ، وتناسب جوارحه لصدروه من غير ضعف وقصور ، والإرادة هي انبعاث النّفس إلى إيجاد ما فيه صلاح بنظره ، وإن كان الانبعاث ناشئا من الدّواعي الشّهوانيّة وخبث الذّات والطّينة ، أو بإيجاد الله تلك الدّواعي في قلبه.
إن قيل : على هذا يلزم الجبر ، وينتفي الاختيار.
في أنّ تعلّق الإرادة التكوينية بأفعال العباد لا يستلزم الجبر ولا ينافي الاختيار
قلنا : لا شبهة أنّ الاختيار في اللّغة هو طلب الخير ، كالاكتساب والاختيار ، وإنّما اطلق على الإرادة بلحاظ أنّها معلولة من العلم بالخير والصّلاح في الفعل المراد ، ومؤثّرة في إيجاده ، إذ ليس وجودها الخارجيّ ومصداقها الحقيقي إلّا توجّه النّفس إلى فعل لاحظ الفاعل فيه خيره ، أو ترك شيء لاحظ في فعله شرّه ، فإذا وجد الفعل وكان الجزء الأخير من علّته تلك الإرادة فهو اختياريّ ، أي منسوب إلى الاختيار ومعلول له ، ولا معنى لاختياريّة الفعل غير كونه موجودا بالإرادة ، ولا يعتبر فيها أن تكون إرادته موجودة بإرادة اخرى ، بل يستحيل أن تكون الإرادة للتّالي إراديّة ، للزوم التسلسل ، وإن أمكن أحيانا وعلى حسب الاتّفاق كون بعض مباديها إراديا إلّا أنّه لا بدّ من انتهائه إلى ما لا يكون بالإرادة.
وبالجملة لا يعتبر في اختياريّة الفعل إلّا إرادة واحدة معلولة للعلم بالصّلاح في المراد ، وإن كان ذلك العلم حاصلا من غير المبادئ الاختياريّة أو بإرادة الغير ، فإنّ جميع التسبيبات يكون بإيجاد الدّاعي في ذهن المباشر. مثلا إذا أراد أحد تحريك غيره وبعثه إلى قتل نفس محترمة بالإرادة التكوينيّة ، لا بدّ له من إيجاد الدّاعي لمن يريد بعثه ، وهو يكون بوعده بما يشتاق إليه ، ويجعل بوعده الملازمة بين ذلك الفعل ونيل مطلوبه من مال أو جاه ، فإنّ الوعد في الحقيقة جعل الملازمة بين الموعود والموعود عليه ، فإذا علم من اشتاق إلى مال أو جاه بأنّه يكون في قتل النّفس الوصول إلى ذلك المال أو الجاه ، فعند ذلك يؤثّر ذلك العلم في تعلّق إرادته بالقتل ، فإذا انقدح في قلبه إرادته تحرّكت جوارحه نحو القتل ، ولكون فعله معلوما عنده بعنوانه وموجودا بإرادته وقدرته ، يستحقّ اللّوم والعقاب ، وإن لم يكن وجود الدّاعي المؤثر في إرادته بفعله وإرادته ، بل بفعل غيره والوعد