موضعا.
فظهر من جميع ذلك أن كلّ فعل صدر من العبد بقوّة جوارحه وإرادته المنقدحة في ذهنه يكون فعله اختياريا (١) وتحسن عقوبته عليه ، إذا كان عنوانه الذي يكون به قبيحا ملتفتا إليه ، وإن كان مبادئ إرادته بإيجاد الله ومشيئته ، بل هو سبحانه وتعالى علّة علل جميع الأفعال الاختياريّة ، حيث إن وجود جميع الموجودات من الجواهر والأعراض والغرضيّات من الفعل والانفعال والوضع والإضافات والكيفيّات وغير ذلك في جميع العوالم ، لا بدّ أن تكون بالإرادة التكوينيّة الإلهيّة لأنّه السلطان المطلق والمالك الحقّ ، وجميع عوالم الوجود مملكته ، وناصية كلّ شيء بيده ، ليس لغيره من مخلوقاته تصرّف وسلطان في ملكه وسلطانه ، فلا يتحرّك متحرّك ولا يسكن ساكن ولا يؤثّر مؤثّر ولا يتصرّف متصرّف إلّا بأمره وإذنه. ولا يمكن أن يوجد أحد ما لم يرد الله وجوده ، أو يعدم ما لم يرد الله عدمه ، أو يتحرّك أو يسكن إذا لم يرد الله حركته أو سكونه.
فعلى هذا يكون إيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع ومعصية العاصي منتهيا إلى مشيئته وأمره ، كما قال تعالى : ﴿وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾(٢) .
في دفع توهّم الفخر الرازي لزوم الجبر إذا كانت الأفعال معلولة للارادة والإرادة معلولة للدّواعي والدواعي معلولة للارادة التكوينية الالهية وقد غلط من توهّم أنّ الفعل إذا كان بالإرادة والإرادة بتأثير الدّاعي والدّاعي بإيجاد الله لزم الجبر ، لما ذكرنا من أنّ الجبر حمل الغير على فعل لا يريده ، لا إيجاد علل إرادته ، وأنّ الإرادة والجبر ضدّان لا يجتمعان في فعل واحد ، فإذا كان فعل مرادا امتنع أن يكون مجبورا عليه.
وأمّا نفس الإرادة فحيث إنّها ليست إراديّة ، لا يعقل أن يضاف إليها الجبر بأنّ يقال : إنّ المريد كان مجبورا في إرادته ، فإذا زيّن أحد معصيته في نظر أحد بحيث صار تزيينه لها داعيا ، وعلة لارادتها لا يعدّ المزيّن فاعلا لها ولا مجبرا عليها ، بل يعدّ سببا ، والفاعل المريد مباشرا للمعصية ، مستحقّا للذّمّ عليها بسبب إرادته واختياره.
إن قيل : لا ريب أنّ السبب في صدور فعل القبيح من الغير وتحريكه إليه بإيجاد الداعي له ، قبيح كمباشرته ، فكيف يجوز نسبة وجود الدّاعي إلى الكفر والمعاصي وتسبيب أسبابه إلى الله الحكيم ، مع
__________________
(١) في النسخة : الاختياري.
(٢) يونس : ١٠ / ١٠٠.