حفظهم ، وكون تلاوة القرآن وتعلّمه من أهمّ مشاغلهم ، وأفضل عباداتهم ، بل الظاهر أنّ المراد من جمع القرآن هو تدوينه مع ما أفاده النّبيّ صلىاللهعليهوآله من تفسير آياته ، وبيان معضلاته ، وكيفيّة قراءته وسائر العلوم الراجعة إليه.
وعلى هذا النحو من الجمع يحمل ما روته العامّة من أنّه لمّا بويع أبو بكر ، وتخلّف عليّ عليهالسلام عن بيعته ، وجلس في بيته ، بعث إليه أبو بكر ، وقال : ما أبطأك عنّي ، أكرهت إمارتي ؟ قال عليّ عليهالسلام : ما كرهت إمارتك ، ولكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلّا للصّلاة حتّى أجمع القرآن (١) .
وكذا ما روي في ( الاحتجاج ) عن أبي ذرّ رضى الله عنه أنّه لمّا توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآله جمع عليّ عليهالسلام القرآن ، وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم ، لما قد أوصاه بذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلمّا فتحه أبو بكر خرج في أوّل صفحة فتحها فضائح القوم ، فوثب عمر وقال : أردده يا عليّ ، فلا حاجة لنا فيه. فأخذه عليّ عليهالسلام وانصرف (٢) .
فإنّ خروج فضائح القوم فيما جمعه عليّ عليهالسلام لذكره شأن نزول الآيات ، فإنّ كثيرا منها نزلت بسبب عصيان أصحابه ، كما روت العامّة أنّه بعد ما أجبر عمر زوجته على المواقعة في ليلة الصّيام حراما ، نزل قوله تعالى : ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ﴾(٣) ، وأنّه بعد ما أبى أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وجمع من الصحابة عن قبول آية محاسبة ما في النفس ، نزل قوله تعالى : ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها﴾(٤) وأنّه بعد ما شرب جمع من الصحابة الخمر وتكلّم بعضهم في حال السكر بالكفر نزلت آية تحريم الخمر (٥) ، أنّه بعد ما قتل اسامة مسلما ألقى إليه السّلام بطمع الغنيمة نزلت آية : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾(٦) إلى غير ذلك ممّا ذكر في مواقعها.
والحاصل : أنّ الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين عليهالسلام كان فيه بيان شأن نزول الآيات ، وأسماء الّذين نزلت فيهم وأوقات نزولها ، وتأويل متشابهاتها ، وتعيين ناسخها ومنسوخها ، وذكر عامّها وخاصّها ، وبيان العلوم المرتبطة بها ، وكيفية قراءتها.
__________________
(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٣٣٨ ، الصواعق المحرقة : ١٢٨.
(٢) الاحتجاج : ١٥٥.
(٣) الدر المنثور ١ : ٤٧٧ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ١٨٧.
(٤) تفسير الرازي ٧ : ١٢٥ ، والآية من سورة البقرة : ٢ / ٢٨٦.
(٥) أسباب النزول : ٨٧.
(٦) الدر المنثور ٢ : ٦٣٤ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ٩٤.