الذي هو خالق سائر الموجودات ، فهو بقدرته يسيّرها وبحكمته يحرّكها إلى المغرب. فإن كنت تدّعي الالوهيّة الملازمة للقدرة الكاملة ﴿فَأْتِ﴾ وسيّر ﴿بِها مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ إلى المشرق.
﴿فَبُهِتَ﴾ وتحيّر الملك ﴿الَّذِي كَفَرَ﴾ في الجواب ، وصار كالمدهوش ، لم يجد للردّ مقالا ، وللمعارضة مجالا ؛ لبداهة أنّه ليس للبشر التصرّف في الفلكيّات ، سيّما مثل هذا التّصرّف ﴿وَاللهُ لا يَهْدِي﴾ ولا يوفّق للرّشد إلى صراط الحقّ وطريق الجنّة ﴿الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ على أنفسهم باختيار الكفر والضّلال ؛ لخبث طينتهم ، وسوء سريرتهم ، فاستحقّوا الخذلان والنّكال.
قصّة النبي الذي مرّ على قرية
ثمّ أنّه تعالى - بعد إقامة البرهان على التّوحيد ؛ بذكر محاجّة إبراهيم عليهالسلام - أخذ في إقامة البرهان على إمكان المعاد بذكر قصّة متضمّنة لوقوع نظيره الذي هو أقوى البراهين على إمكانه ، بقوله : ﴿أَوْ﴾ رأيت ك النبيّ الذي ﴿مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ بيت المقدس. وهل اطلّعت على لطف ربّك باحد مثل لطفه بذلك النبيّ ؟ حيث إنّ الله هداه إلى المعرفة الكاملة بالمعاد ، وكيفيّة البعث وإحياء الرّمم ، حتى بلغ من مرتبة علم اليقين إلى درجة عين اليقين ، وذلك من شؤون ولايته للمؤمنين.
روي أنّ بني إسرائيل لمّا بالغوا في تعاطي الفساد سلّط الله عليهم بخت نصّر ، فسار إليهم في ستّمائة ألف راية ، حتّى وطئ الشّام ، وخرّب بيت المقدس ، وجعل بني إسرائيل أثلاثا : ثلثا منهم قتلهم ، وثلثا منهم أقرّهم بالشّام ، وثلثا منهم سباهم. وكانوا مائة ألف غلام يافع وغير يافع ، فقسّمهم بين الملوك الّذين كانوا معه ، فأصاب كلّ ملك منهم أربعة غلمة ، وكان عزير من جملتهم (١).
وعن ابن عبّاس : أنّه كان من علمائهم (٢) ، وجاء بهم إلى بابل ، فلمّا نجّاه الله منهم بعد حين مرّ بحماره على بلدة بيت المقدّس ، فرآها ﴿وَهِيَ خاوِيَةٌ﴾ وساقطة بحيطانها ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ وسقوفها ، خالية من أهلها. فلمّا رأى العزير الأجساد البالية ﴿قالَ﴾ - استعظاما لقدرة الله ، واعترافا بقصور فهمه عن كيفيّة الإحياء ، أو تلهّفا على القرية وأهلها ، وتشوقا إلى عمارتها مع استشعار اليأس عنها ، لا شكّا وإنكارا - : ﴿أَنَّى يُحْيِي هذِهِ﴾ العظام ، أو هذه القرية ، وكيف يبعثها ﴿اللهُ﴾ أو يعمّرها ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ وبلائها ، أو بعد خرابها وعفو آثارها.
عن ابن عبّاس رحمهالله : أنّ عزيرا دخل يوما تلك القرية ، ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط
__________________
(١) تفسير روح البيان ١ : ٤١٢.
(٢) تفسير الرازي ٧ : ٣١.