وفي رواية : أعمى الله تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد ، فلمّا مضى من موته سبعون سنة وجّه الله عزّ وعلا ملكا عظيما من ملوك فارس ، يقال له : يوشك إلى بيت المقدس ليعمّره ، ومعه ألف قهرمان (١) ، ومع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل ، فجعلوا يعمّرونه ، وأهلك الله بخت نصّر ببعوضة دخلت في دماغه ، ونجّى الله من بقي من بني إسرائيل ، وردّهم إلى بيت المقدس ، فتراجع من تفرّق منهم ، فعمّروه ثلاثين [ سنة ] ، فلمّا تمّت المائة من موت عزير أحياه الله (٢) ، وذلك قوله : ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ والتّعبير عن الإحياء بالبعث للدّلالة على السّرعة ، وسهولته على الله ، مع كونه بعد الموت في مدّة طويلة.
وفي رواية القمّي : عن الصادق عليهالسلام أنّه لمّا سلّط الله بخت نصّر على بني إسرائيل هرب أرميا ، ودخل في عين وغاب فيها ، وبقي ميّتا مائة سنة ، ثمّ أحياه [ الله تعالى ] وأوّل ما أحيا منه عينيه في مثل غرقيء (٣) البيض ، فنظر (٤) ثمّ ﴿قالَ﴾ الله وحيا ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ وبقيت ميّتا.
وفي رواية ابن عبّاس رحمهالله : ونودي من السّماء : يا عزير كم لبثت بعد الموت ؟ (٥) قيل : كان السّؤال لأجل أن يظهر له عجزه عن الإحاطة بشؤون الرّبوبيّة ، وليعلم بالبرهان أنّ إحياءه كان بعد مدّة طويلة حتى تنحسم مادّة استبعاده بالمرّة (٦) .
﴿قالَ﴾ عزير أو أرميا - على وجه الحسبان والتّخمين - : ﴿لَبِثْتُ يَوْماً﴾ ثمّ نظر إلى ضوء الشّمس باقيا في رؤوس الجدران كما روي ، فقال : ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ وقيل : إنّه قال : يوما أو بعض يوم ، اقتصارا لمدّة لبثه (٧) .
ثمّ ﴿قالَ﴾ الله ما لبثت المدّة اليسيرة ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ قيل : فائدة إماتته مائة عام وإعلامه بها - مع كفاية الإحياء بعد موت ساعة لثبوت المطلوب ، وهو القدرة على الإحياء بعد الموت - أنّ الإحياء بعد مثل هذه المدّة الطويلة أدلّ على القدرة ؛ لأنّ إحياء العظام الرّميم أبعد في العقول ، كما هو واضح.
ثمّ كأنّه قال الله : إن شئت أن يزيد عرفانك بكمال قدرتي ﴿فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ﴾ من التّين والعنب اللذين يفسدان من غاية اللّطافة في اليوم واللّيلة ﴿وَشَرابِكَ﴾ من العصير أو اللّبن ، مع أنّهما يتغيّران
__________________
(١) القهرمان : أمين الملك ووكيله الخاص.
(٢) تفسير أبي السعود ١ : ٢٥٣.
(٣) الغرقيء : القشرة الرقيقة الملتزقة ببياض البيض.
(٤) تفسير القمي ١ : ٩٠ ، تفسير الصافي ١ : ٢٦٧.
(٥) تفسير الرازي ٧ : ٣١.
(٦) تفسير روح البيان ١ : ٤١٣.
(٧) تفسير روح البيان ١ : ٤١٣.