ولا يستعمل الماء القليل ، بل كان لا يتطهر إلا بالكُر ، ثمّ يتشرف قبل الفجر بساعة إلى الحرم المطهر ، ويقف ـ صيفاً وشتاءً ـ خلف باب القبلة ، فيشتغل بنوافل الليل إلى أن يأتي السيِّد داود نائب خازن الروضة ، وبيده مفاتيح الروضة ، فيفتح الباب ويدخل شيخنا ، وهو أول داخل لها وقت ذاك ، وكان يشترك مع نائب الخازن بإيقاد الشموع ، ثمّ يقف في جانب الرأس الشريف ، فيشرع بالزيارة والتهجد إلى أن يطلع الفجر ، فيصلي الصبح جماعة مع بعض خواصِّه من العبَّاد والأوتاد ، ويشتغل بالتعقيب ، وقبل شروق الشمس بقليل يعود إلى داره ، فيتوجَّه رأساً إلى مكتبته العظيمة المشتملة على ألوف من نفائس الكتب والآثار النادرة العزيزة الوجود أو المنحصرة عنده ، فلا يخرج منها إلا للضرورة ، وفي الصباح يأتيه من كان يعينه على مقابلة ما يحتاج إلى تصحيحه ومقابلته مما صنفه أو استنسخه من كتب الحديث وغيرها ، كالعلَّامتين الشيخ علي بن إبراهيم القمي ، والشيخ عباس بن محمد رضا القمي ، وكان معينه على المقابلة في النجف وقبل الهجرة إلى سامراء وفيها أيضاً المولى محمد تقي القمي الباوزئيري الذي ترجمناه في القسم الأول من هذا الكتاب ص ٢٣٨.
وكان إذا دخل عليه أحد في حال المقابلة اعتذر منه أو قضى حاجته باستعجال ، لئلا يزاحم وروده أشغاله العلمية ومقابلته ، أما في الأيام الأخيرة وحينما كان مشغولاً بتكميل (المستدرك) فقد قاطع الناس على الإطلاق ، حتى إنه لو سُئل عن شرح حديث أو ذكر خبر أو تفصيل قضية أو تأريخ شيء أو حال راو أو غير ذلك من مسائل الفقه والأصول ، لم يُجِبْ بالتفصيل ، بل يذكر للسائل مواضع الجواب ومصادره فيما إذا كان في الخارج ، وأما إذا كان في مكتبته فيخرج الموضوع من أحد الكتب ، ويعطيه للسائل ليتأمله ، كل ذلك خوف مزاحمة الإجابة الشغل الأهم من القراءة أو الكتابة (١) ، وبعد الفراغ من أشغاله كان يتغذى بغداء معين كمّاً وكيفاً ، ثمّ
__________________
(١) كان ذلك من الله ، فكأن هاتفاً هتف في أذنه ، وأمره بترك أشغاله ، لأنه توفي بعد تتميم الكتاب بقليل. (منه قدسسره).