الحجاز الذي هو مسكنهم ، ونردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا وهو الشام ، وحمله على إجلاء بني النضير إلى أريحا ، وأذرعات ، من الشام ، وهذا أضعف الوجوه ، لانه ترك للظاهر. فإن قيل على القول الاول كيف أوعد سبحانه ، ولم يفعل؟ فجوابه على وجوه : أحدها : إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن واحد منهم ، فلما آمن جماعة منهم ، كعبد الله بن سلام ، وثعلبة بن شعبة ، وأسعد بن ربيعة ، وأسعد بن عبيدة ، ومخريق ، وغيرهم ، وأسلم كعب في أيام عمر ، رفع العذاب عن الباقين ، ويفعل بهم ذلك في الآخرة ، على أنه سبحانه قال : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا) والمعنى أنه يفعل أحدهما ، وقد لعنهم الله بذلك. وثانيها : إن الوعيد يقع بهم في الآخرة ، لانه لم يذكر أنه يفعل بهم ذلك في الدنيا ، تعجيلا للعقوبة. وثالثها : إن هذا الوعيد باق منتظر لهم ، ولا بد من أن يطمس الله وجوه اليهود ، قبل قيام الساعة ، بأن يمسخها. (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) : أي نخزيهم ونعذبهم عاجلا. وقيل : معناه نمسخهم قردة : (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) : يعني الذين اعتدوا في السبت ، وإنما قال سبحانه : (نَلْعَنَهُمْ) بلفظ الغيبة ، وقد تقدم خطابهم لأحد أمرين : إما للتصرف في الكلام كقوله (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) فخاطب ، ثم قال (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) فكنى عنهم ، وإما لأن الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، لانهم في حكم المذكورين. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) فيه قولان : أحدهما : إن كل أمر من أمور الله سبحانه ، من وعد ، أو وعيد ، أو خبر ، فإنه يكون على ما أخبر به ، والآخر : إن معناه أن الذي يأمر به بقول كن كائن لا محالة ، وفي قوله سبحانه (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) دلالة على أن لفظة (قَبْلِ) تستعمل في الشىء ، أنه قبل غيره ، ولم يوجد ذلك لغيره ، ولا خلاف في أن استعماله يصح ، ولذلك يقال «كان الله سبحانه قبل خلقه» (١).
__________________
(١) مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠.