ثمّ اعلم أن الظاهر من الأخبار أن القائم عليهالسلام إذا ظهر يحكم بما يَعْلم في الواقعة لا بالبيِّنة ، وأما من تقدَّمه من الأئمة عليهمالسلام فقد كانوا يحكمون بالظاهر ، وقد كانوا يُظْهِرون ما يعلمون من باطن الأمر بالحِيَل كما كان أمير المؤمنين عليهالسلام يفعله في كثير من الموارد ، وقال الشيخ المفيد في كتاب المسائل : للإمام عليهالسلام أن يحكم بعلمه كما يحكم بظاهر الشهادات ، ومتى عرف من المشهود عليه ضد ما تضمنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه ، وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى ، وقد يجوز عندي أن تغيب عنه بواطن الأمور ، فيحكم فيها بالظواهر وإن كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى ، ويجوز أن يدلَّه الله تعالى على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين ، فلا تغيب عنه حقيقة الحال ، والأمور في هذا الباب متعلقة بالألطاف والمصالح التي لا يعلمها على كل حال إلا الله عزوجل ، ولأهل الإمامة في هذه المقالة ثلاثة أقوال : فمنهم من يزعم أن أحكام الأئمة على الظواهر دون ما يعلمونه على كل حال ، ومنهم من يزعم أن أحكامهم إنما هي على البواطن دون الظواهر التي يجوز فيها الخلاف ، ومنهم من يذهب إلى ما اخترته أنا من المقال (١).
وقال في مرآة العقول : وهذا الاختلاف في سِيَرهم عليهمالسلام ليس من قبيل النسخ حتى يرد : (لا نسخ بعد نبيِّنا) ، بل إما باعتبار التقية في بعضها ، أو اختلاف الأوضاع والأحوال في الأزمان ، فإنه يمكن أن يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر الإمام بالحكم بالواقع إذا لم يصر سبباً لتفرّق الناس ورجوعهم عن الحق ، وبالحكم بالظاهر إذا صار سبباً لذلك ... (٢).
قلت : لما كانت وظيفة الإمام المهدي عليهالسلام هي ملء الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً ، فمن الطبيعي أن يكون حكمه بالواقع ، لترجع الحقوق إلى أهلها ، وهذا يقتضي أن يحكم بعلمه الذي يلهمه الله به ، وهو حكم داود عليهالسلام ، لا
__________________
(١) بحار الأنوار ٢٦ / ١٧٧.
(٢) مرآة العقول ٤ / ٣٠١.