ولكن للتقرّب إليه جلّت عظمته درجات متفاوتة وعرض عريض ، وأنواع كثيرة تختلف حسب المقامات والاستعدادات بل الاعتقادات ؛ لأنّ الذات غير متناهيّة وكذلك الصفات ، فالتقرّب إليه يكون كذلك ، فلا يمكن تحديده.
وإنّ التقرّب إليه سبحانه وتعالى لا يختصّ بالإنسان ، فكلّ موجود ما سواه يسعى للتقرّب إليه جلّت عظمته ، قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [سورة الاسراء ، الآية : ٤٤] ، وقد أثبت الفلاسفة الإلهيّون أنّ قوام العالم ـ بكلّياته وجزئياته العلويّ منه أو السفلي ـ وسيره الاستكمالي يدور مدار العشق لمظهر الأحديّة ، وهذا العشق قد يكون تكوينيّا ، وقد يحصل بالاختيار من الإشراق منه في الإنسان ؛ لأنّ النفس الناطقة في الإنسان ليست من المادّيات المحضة ، بل لها نحو تجرّد قابل للارتباط بعالم الغيب باختياره ؛ ولهذا الارتباط مراتب كثيرة شدّة وضعفا ، ولذا قد يحصل للإنسان بعض مراتب التقرّب إليه تعالى باختياره ثم تزول عنه كذلك ، فيكشف ذلك عن أنّ التقرّب إليه جلّ شأنه لم يكن عن إيمان عميق ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٢٣].
وسبل التقرّب إليه تعالى والارتباط بعالم الغيب لا بد وأن تفاض منه جلّت عظمته إلينا بالإلهام على العقول البريئة عن المستلذّات والشهوات وتقرير الأنبياء والأولياء ، وإلا لم تحصل تلك الغاية المنشودة والهدف الأسمى من خلق الإنسان ، ويكون الإنسان في حيرة من التقرّب إليه دائما ، وقد ثبت في محلّه أنّ بعث الأنبياء واجب عقلي له دخل في نظامي التكوين والتشريع ، وليس ذلك إلا لأجل بيان سبل التقرّب إليه تعالى ، إما بالتقرير ، أو الكشف.
وتلك السبل هي الأحكام الشرعيّة بأقسامها التابعة للمصالح العائدة إلينا والمفاسد التي تضرّنا ، المجعولة ممّن وجب حقّه علينا ؛ ولذا تكون الأحكام