بل يمكن أن يقال : إنّ كلمة «أهلها» تدلّ على أنّه لا بد أن يكون المؤدّى إليه الأمانة له أهليّة الأمانة ، فتختصّ الآية الشريفة بأداء الأمانة لله تعالى ورسله وأنبيائه العظام والأوصياء الأكرمين ، فإنّ لهم أهليّة أداء الأمانة ، وأما غيرهم فيكون ردّ أمانتهم لردّ أمانة أولئك المتقدّمين ، ويشهد لذلك تعقيب هذه الآية الكريمة بالحكم بالحقّ ، الذي هو حقّ إلهي وإطاعة الله والرسول واولي الأمر منكم ، فإنّه من باب التطبيق لتلك الأمانة التي أمرنا بأدائها الى أهلها.
والآية المباركة على ايجازها البليغ تشتمل على معان كثيرة دقيقة ، لا بد من الالتفات إليها ، فإنّها أوّلا نصّ عقائدي توجيهيّ بأداء الأمانة الكبرى ، وهي عبادة الله الواحد المتفرّد بالالوهيّة والحاكميّة المطلقة التي قرّرتها الآية الكريمة اللاحقة.
ثم هي تتضمّن دستورا عمليّا مرتبطا بالعقيدة ، وهو تنظيم علاقات أفراد المجتمع الإسلامي على طبق الأمانة الكبرى ، وتنظيم علاقات الفرد مع خالقه.
وثانيا : أنّ الآية الشريفة تدلّ على أداء الأمانة الى من له أهليّة الأداء إليه ، وهو تارة : يكون من له الأهليّة الحقيقيّة الذاتيّة ، وهي تختصّ بالأمانة الكبرى واولى الأمانات التي يتعلّق بها سائر الأمانات ويجب أن تؤدى الى الله تعالى ، وهي تنحل الى الإيمان بأنّه إله واحد لا شريك له المتفرّد بالالوهيّة وله الحاكميّة المطلقة والربوبيّة العظمى ، وتنحصر الطاعة الحقيقية له عزوجل ، وهذا هو الذي تحدّث عنه تعالى في الآيات السابقة ، نظير قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [سورة النساء ، الآية : ٣٦] ، وقوله تعالى الذي بدأت هذه السورة به : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [سورة النساء ، الآية : ١] ، وسيأتي موارد في الآيات التالية بيان ذلك.