وقد سبق في كلمة الجلالة تفسيره بمطلق التذلّل والخضوع ، وأنّ التخصيص لعلّه باعتبار الانصراف إلى الفرد الكامل ، ولا يليق بالعبادة إلا من كان منعما بالحقيقة ، فليس غيره سبحانه أهلا لها ؛ إذ لا منعم سواه على ما عرفت. وحينئذ فيقرب من التفسير المتقدّم بالاطاعة المقترنة بالتذلّل والخضوع.
وأمّا اعتبار التوحيد والاخلاص ونفي الرياء والسمعة ، فالظاهر أنّه باعتبار تقدّم المفعول على الفعل ، مع أنّ حقّه التأخير عنه ، خصوصا مع كونه ضميرا لا ينبغي الاتيان به منفصلا مع إمكان الاتيان به متّصلا. وهذا يكشف عن وجود نكتة ، وأظهرها في مثل المقام الحصر ، بمعنى : نخصّك بالعبادة ونجعلها مختصّة بك ، فلا نعبد غيرك ولا نشركه في عبادتك. وهو معنى الاخلاص والتوحيد في العبادة ، ونفي الرياء والسمعة الاستقلاليّين والانضماميّين إلى داعي القربة ؛ إذ الاوّل عبادة غيره سبحانه ، إذ هو المقصود بالعبادة في الفرض ، والثاني شرك في العبادة حيث قصد بها الخالق والمخلوق معا.
ولمّا كان للعبادة من حيث الغاية درجات أشرنا إليها في كلمة الجلالة مع كثير ممّا يتعلّق بالمقام ؛ إذ العابد إمّا يجعل الحقّ وسيلة وواسطة لنيل مطلوب ، أو دفع مكروه ، صوريّ أو معنويّ ، دنيويّ أو أخرويّ ، وهذه درجة الخائفين والراجين ، وإمّا يجعل الحقّ غاية عبادته فلا يريد منه بعبادته غيره سبحانه ، وهو العابد بالحقيقة ، وما قبله عبادة تلك الغاية في المعنى ، فكأنّ حقيقة الحصر لم يتحقّق إلا في الثاني ، مضافا إلى ما عساه يشعر به تقدّم الضمير على الفعل من الايماء إلى أنّ العابد ينبغي أن يكون مطمح نظره أوّلا وبالذّات هو الحقّ سبحانه على وتيرة : «ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله.» (١) ثمّ منه إلى أنفسهم لا من حيث ذواتها ، بل من حيث أنّها ملاحظة له عزوجل ومنتسبة إليه ، ثمّ إلى أعمالهم من
__________________
(١) إشارة إلى قول أمير المؤمنين ـ عليهالسلام ـ المعروف.