فانظر كيف أثبت أوّلا بصرا وسمعا وانقيادا بعد الوقرة والعشوة والمعاندة بعد الذكر ، والظاهر أنّه جزاء المواظبة على ذكره سبحانه ، وأثبت بعده عبادا يناجيهم الحقّ ، ويكلّمهم في ذات عقولهم ، وهل يدرك الكلام والنجوى إلا بالسمع؟ ثمّ أثبت لهم نور يقظة في الاسماع والابصار والافئدة ، ثمّ وصف أهل الذكر بقوله : «فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك» ، وهل يكون مشاهدة إلا بعين بصيرة؟ وكيف عطف على الاطلاع تحقيق القيامة عداتها بدون غطاء حتى كشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا؟
وأمّا التعبير بلفظ «كأنّما» بعد ذلك وقبله ، فلعلّه لمشابهة الرؤية والسماع الحسيّين الواقعين في عالم الشهادة ، وهما اللّذان يفهمهما الناس والمخاطبون ؛ إذ لم يتصوّروا غيرهما ، فلا ينافي ذلك كون الابصار والسماع حقيقتين واقعتين على طبق ما في هذا العالم ، أو توسّع منه عليهالسلام في التعبير باعتبار ملاحظة قصور المخاطبين أو بعضهم عن إلقاء ذلك المطلب الغريب عن الاذهان عليه ، فإنّهم يكلّمون الناس على قدر عقولهم ، فأورد الكلام على وجه يفهم القابل والناقص ما يناسب مقامه ومرتبته.
وروى العياشي كما نقل عنه عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال : سمعته يقول :
«أنتم والله الذين قال [الله] فيهم (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ)(١) ؛ إنّما شيعتنا أصحاب الاربعة الاعين : عين في الرأس ، وعين في القلب ، ألا والخلائق كلّهم كذلك إلا أنّ الله فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم.» (٢)
__________________
(١) الحجر / ٤٧.
(٢) العياشي ، ج ٢ ، ص ٢٤٤ ، ح ٢٣ ؛ ورواه بهذا الاسناد أيضا الكليني (رض) ـ