وجعلوا مكانه الضلالة. فهذه صورة معاملتهم في متجر الدنيا وسوقها المعدّ لتحصيل الربح الدائم والثواب العظيم. ولمّا كان الهدى هو الاصل في كلّ خير باق لكون الملكات والاحوال والنيّات ، والاعمال كلّها من توابع الهداية ، والضلالة المقابلة له هي أصل كلّ شرّ حقيقي ، كان هؤلاء المستبدلين خاسرين في تجارتهم ، وما كانوا مهتدين إلى طريق التجارة ؛ لأنّهم أضاعوا الربح الذي هو فضل التجارة ، ورأس المال الذي هو الهداية الّتي هي مال التجارة ، الّتي لم يبق لهم مع الضلالة ، ولم يحصل لهم سوى الضلالة التي هي أصل كلّ شرّ ومقصود التاجر هو بقاء رأس المال والربح ، وعدم حصول الضرر عليه ، وهؤلاء ذهب عنهم الأوّلان ، ولزم عليهم الامر الثالث مضافا إلى ضرره السابق.
ثمّ إنّ مراتب الهداية والضلالة متقابلة ، فالهداية الموهوبة الالهيّة عقيب سعي العبد في مقام العبوديّة في مقابلة الضلالة الحقيقيّة تقابل النور والظلمة ، والمعرفة الفطريّة التي فطر الناس عليها ، التي هي أولى بصدق الاشتراء عليه في مقابل الضلالة الحاصلة من الاحتجاب عنه ، واليقين الاكتسابيّ البرهاني في مقابلة الشكّ والجهل المركّب ، والعلوم الاكتسابيّة في مقابلة الجهل بها بسيطا أو مركّبا ، وكذا الامور المترتّبة على تلك الهدايات من السداد والاستقامة والرشاد والاحوال والملكات الحسنة ، والنيّات الخالصة ، والافعال الصالحة في مقابلة أضدادها. والانسان في الدنيا كأنّه مجبول بالتجارة واكتساب مصالحه بما عنده من العمر والاعضاء والادوات الخارجيّة ، والقوى الداخليّة ، والادراكات الحاصلة له ، فيستعملها في أخذ شيء وتحصيله ، وترك شيء ودفعه ، كأنّه يحسّ من نفسه أنّه خلق لأجل الاكتساب والتجارة ، لكنّ التجارات والاكتسابات مختلفة ، فتجارة المؤمنين رابحة يسّرها لهم ربّهم ؛ كما وصف المتّقون بها في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام (١)
__________________
(١) قال عليهالسلام في وصفهم : «تجارة مربحة ، يسرها لهم ربهم.» راجع نهج البلاغة ، خ ١٩٣ ، ص ٣٠٤.