تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) إنما يصحّ ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم ، فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار ، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود : لم لا تبيض؟
والجواب : أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق ، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه ، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه ، وإن حصل من الله ـ تعالى ـ فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا ، والآخر مرجوحا ، والمرجوح ممتنع الوقوع ؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع ، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر ، فيعود عليهم ما أوردوه ، ثم الجواب الحقيقي عن الكل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣].
قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ)(٤٥)
قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر ، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل.
وأصل «استعينوا» : «استعونوا» ففعل فيه ما فعل في «نستعين» وقد تقدم تحقيقه ومعناه.
و «بالصبر» متعلّق به ، والباء للاستعانة أو للسّببية ، والمستعان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليها ، واستعان يتعدّى بنفسه نحو : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] ، ويجوز أن تكون الباء للحال ، أي : ملتبسين بالصبر.
والظّاهر أنه يتعدّي بنفسه وبالباء ، تقول : استعنت الله واستعنت بالله ، وقد تقدم أن السّين للطلب.
والصّبر : الحبس على المكروه ؛ ومنه : «قتل فلان صبرا» ؛ قال : [الوافر]
٤٥٤ ـ فصبرا في مجال الموت صبرا |
|
فما نيل الخلود بمستطاع (١) |
و «المصبورة» التي نهي عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت ، وهي المجثمة. والصبر المأمور به هو الصّبر على الطّاعة ، وعن المخالفة ، وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطّاعة.
قال النحاسي : «ولا يقال لمن صبر على المصيبة : صابر إنما يقال : صابر على كذا». ويرده قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٥] ثم قال : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) [البقرة : ١٥٦] الآية.
__________________
(١) البيت لقطري بن الفجاءة ينظر في تخليص الشواهد : ص ٢٩٨ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٥١ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢٢٠ ، وشرح الأشموني : ٤ / ١٢ ، الدر المصون : ١ / ٢١٢.