إذا كانا من الامور الحقيقيّة الباقية لا الداثرة الفانية ، ولا يقبل ذلك عند ورود موجب العلم والادراك ، ولا يلتزم به ، فصار منسلخا عن البصيرة الّتي من شأنها القبول والاتّصاف بالعلم ، وداعية الطلب قبل ورود الموجب ، وداعية الالتزام بعد القبول ، كما هو الشأن في جميع القوى الانسانيّة والحيوانيّة ، فانّها تقوى بالاعمال ، وتضعف أو تنعدم بالاهمال ، خصوصا عند العمل على خلاف مقتضياتها وأضدادها ، فانّ العادة كالطبيعة الثانية قاهرة على الطبيعة الاولى واردة عليها ؛ ألا ترى إلى أنّ بعض المشتغلين لوعظ الناس وذكر المصائب لأجل التكسّب بهما وطلب المال والجاه ، إذا كان بناء أمره من أوّله إلى محض الحفظ والذكر وترك التأثّر ، إذا داوم على ذلك يصير بحيث لا يمكن له تأثّر بوعظ ولا ذكر مصيبة ولو أجهد نفسه؟ لأنّه كلّما يرد على نفسه منهما شيء كان مسبوقا بورود نظائر كثيرة له مقترنة بعدم التأثّر ، فلا يكون له وقع وتأثير في النفس أصلا ، حتّى كأنّه منسلخ عن مقتضى التأثّر رأسا.
وأيضا فانّه إذا جحد النبوّة أو الولاية بعد ظهور الآية فقد أقدم على الاعراض عن الآخرة والواقع رأسا ، والامور الراجعة إليهما هي الاصل في مدركات البصائر ، فلم يبق لبصائر هم مجال نظر وتأمّل فيما من شأنها ، فكأنّهم انسلخوا عنها ، بل وقع ذلك بورود الغطاء وضرب حجاب الجحود عليه وإن بقيت الشأنيّة ، وقد عرضوا تلك النعمة الجسمية بالكفران وترك صرفها فيما خلقت لأجلها ، لأخذ الله سبحانه إيّاها عنهم بعد إتمام الحجّة بظهور الآيات والبيّنات. فمن طرفها صاروا في معرض خطف البصائر ، وكاد أن يقع ذلك عليهم.
ثمّ من بعد التمادي في ذلك الحال ينجرّ الامر إلى الختم والطبع والغشاوة الخاطفة للبصائر ، وقد سبق بيان أحوالها. ويجري نظير هذا البيان في جميع مراتب الجحود الواقع باختلاف العلم مع الحال ، أو أحدهما مع العمل ، كما يشهد له