عالم المعاني ، والرابع في عالم المثال ، والثالث في المتوسّط بينهما ، والخامس في عالم الحسّ والشهادة ، ولكلّ منهما درجات.
وذلك لأنّ موجودات هذا العالم كلّها مركّبات من المادّة والصورة والحصص الكلّيّة والخصوصيّات المشخّصة ، ووجود كلّ مركّب مسبوق بوجود سابقه سبقا ذاتيا عقلا ، وسبقا خارجيّا بالحدس الناشي عن ملاحظة تقابل القوس الصعودي في عالم الانسان مع القوس النزولي في العالم الكبير ، وعن ملاحظة سنّة الله سبحانه في خلق الاشياء من التدريج في ايجادها ، وترتيبها على ما يقتضيه الحكمة بوضعها في مواضعها ، وتنزيلها منزلته ، ومرتبة البسيط مقدّمة على المركّب ، فتقدّمه بالوجود وضع له في محلّه.
وأيضا فانّ الكلّيّات أشرف من الجزئيّات الداثرة والفانية ، يقتضي قاعدة إمكان الاشرف هي موجودة مقدّمة على الجزئيات ، وأيضا فانّ الحكمة الالهيّة المقتضية لابداع الاشياء إنّما تتحصّص متدرّجة ، فلا يتعلّق أوّلا بالماديّات المركبة والجزئيّات ، ألا ترى أنّ صفة الجود في الجواد منّا إنّما يقتضي الانفاق والاعطاء الكلّي فلو كنّا قادرين على أن نوجده على صفة الكلّيّة لأوجدناه كذلك ، وكانت تلك الصفة كافية في صدور ذلك الكلّيّ منّا من دون حاجة إلى ضمّ أمر آخر؟ وأمّا الانفاق على زيد بطريق جزئيّ فلا يكفي تلك الصفة في صدوره ، بل لا بدّ من خصوصيّات تنضمّ إليه توجب تحصيل تلك الطبيعة في ضمن ذلك الفرد من إدراك متعلّق بزيد ، وبأنّه مستحقّ للانفاق عليه ، وبالشيء الّذي ينفق عليه وغير ذلك. وحينئذ فالجواد المطلق القادر على جميع الاشياء ينبغي أن يكون صدور الكلّيّات عنه مع قدرته عليه مقدّما على صدور الجزئيّات ؛ وقد قال الله سبحانه :
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.)(١)
__________________
(١) الحجر / ٢١.