وأما الثّاني : فيما عرفت سابقا أنّ الاشياء لها عوالم ونشئات وأنحاء من الوجود والظهور ، فالرزق مثلا له نحو وجود في هذا العالم ؛ كالحنطة والخبز المأكولين ، وله وجود في السماء ؛ قال سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ.)(١) ولأبدان الحيوانات أرزاق ، وللنفوس أرزاق ؛ بل لكلّ شيء رزق ، وهو ما به قوامه وبقائه ونموّه. فليس معنى الرزق إلا واحد ، لكنّه يختلف أحكامه بحسب العوالم ، وإن كان بحسب العرف لا ينصرف إلا إلى الاوّل خاصّة ، إمّا لجهلهم بسائر أنحائه ، أو لكونه أظهر عندهم ، أو لاختصاص الوضع العرفيّ به ، أو الوضع اللّفظيّ به. وحينئذ فالاستعمال في الاعمّ فيما سوى الاخير حقيقة لغويّة ، وعلى الاخير مجاز لفظيّ وحقيقة معنويّة. ولا ضير في التزام المجاز اللّفظي في آيات الكتاب خصوصا مع كونه حقيقة معنويّة. ألا ترى إلى إطلاق اليد والسمع والبصر والاحاطة والاستواء وغيرها على الله تعالى مع استحالة معانيها العرفيّة على الله سبحانه؟ والظاهر في تفسير ظاهر الظاهر هو الاوّل ، وفي غيرها هو الثاني ، وإن أمكن في بعض البطون حمل اللّفظ على الظاهر ، والانتقال إلى البطن بمثل ما تقدّم في الوجه الاوّل.
وربّما يستفاد من كلام بعض العارفين أنّ الالفاظ لم توضع بازاء خصوص المفاهيم العرفيّة أصلا ، بل هي موضوعة بازاء الحقائق الواقعيّة العامّة ، وأنّ أفرادها المعنويّة أولى بالصدق من الافراد الحسّيّة ، وهذا بناء على أنّ الواضع هو الله سبحانه ، وأنّ الاسماء تنزل من السماء ، أو بني بأمر الحقّ أو إلهامه ، أو أنّ دلالتها بالمناسبة الذاتيّة ، له وجه وجيه ، وإن كان التعميم في بعض المقامات محلّ تأمّل. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.
__________________
(١) الذاريات / ٢٢.