قال القفّال رحمهالله : إن فيما ذكره الله ـ تعالى ـ في [سورة البقرة](١) من أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد.
أحدها : الدلالة بها على صحّة نبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنه أخبر عنها من غير تعلّم ، وذلك لا يكون إلا بالوحي ، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب.
أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها ، فلما سمعوها من محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ من غير تفاوت ، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي.
وأما العرب فلما [شاهدوا](٢) من أن أهل الكتاب يصدقون محمدا في هذه الأخبار ، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلّا من علماء أهل الكتاب ، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب.
وثانيها : تعديد النّعم على بني إسرائيل ، وما منّ الله به على أسلافهم من أنواع النعم ، كالإنجاء من آل فرعون بعد استبعادهم ، وتصيير أبنائهم أنبياء وملوكا ، وتمكينهم في الأرض ، وفرق البحر لهم ، وإهلاك عدوّهم ، وإنزال التوراة والصّفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ، ونقض المواثيق ، ومسألة النّظر إلى الله جهرة ، ثم ما أخرجه لهم في التّيه من الماء من الحجر ، وإنزال المنّ والسّلوى وتظليل الغمام من حرّ الشمس ، فذكّرهم بهذه النعم كلها.
وثالثها : إخبار النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بقديم كفرهم وخلافهم ، وتعنّتهم على الأنبياء ، وعنادهم ، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم ، وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة ، ولما أمروا بدخول الباب سجّدا وأن يقولوا حطّة ، ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ، ويزيد في ثواب محسنهم ، فبدلوا القول وفسقوا ، وسألوا الفوم والبصل بدل المنّ والسّلوى ، وامتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وأخذ منهم المواثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجبل ، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا ، ثم أمروا بذبح البقرة ، فشافهوا موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً).
ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة ، فكأن الله ـ تعالى ـ يقول : إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به ، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمدا عليه الصلاة والسلام ، فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم ، وإعراضهم عن الحق.
ورابعها : تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة.
__________________
(١) في ب : هذه السورة.
(٢) في ب : يشاهدون.