أحدها : أنّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد.
الثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه ، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى.
الثالث : أن الوعيد حق الله ـ تعالى ـ والوعد حق العبد ، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى ، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض ، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفّار ، فلا تكون قاطعة في العمومات.
فإن قيل : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.
قلنا : هب أنه كذلك ، ولكن لما رأينا كثيرا من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة ، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم.
فهذا أصل البحث في دلائل الفريقين ، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسّنة فكثيرة ، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد (١) ، [وبعض](٢) الآيات الدالة على أنه ـ تعالى ـ غفور رحيم غافر غفار ، وهذا لا يحسن إلّا في حق من يستحق العذاب.
[فإن قيل](٣) : لم لا يجوز حمله على تأخير العقاب كقوله في قصة اليهود : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) [البقرة : ٥٢] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة ، وكذا قوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وكذا قوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٤].
فالجواب : العفو أصله الإزالة من عفا أمره ، كما قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) [البقرة : ١٧٨] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم ، بل الإسقاط المطلق ، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفى فيه ، ولو أسقطه يقال : إنه عفى عنه.
الثانية : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وهذا يتناول صاحب [الصغيرة وصاحب الكبيرة](٤) قبل التوبة ؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة.
فإن قيل : لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه ـ تعالى ـ لا يعذب العصاة في الآخرة ؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب ، وهو أعم من إسقاطه دائما أو لا دائما واللفظ الموضوع بإزار القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد ، فيجوز أن يكون المراد أن الله ـ تعالى ـ لا يؤخّر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين.
__________________
(١) في أ : البعض.
(٢) سقط في أ.
(٣) سقط في أ.
(٤) في ب : الكبائر والصغائر.