كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك ، فإنّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد ، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال ، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة ، فوجب أن ترضوا بقتلكم.
السؤال الثالث : لعلّهم كانوا يقولون : الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم ، لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر ، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلدا في النار أبدا ؛ لأنهم كانوا وعدوا به ، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذبا ، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت ، وليس لأحد أن يدفع هذا السّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسّهم النار إلّا أياما معدودة ؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة ، فكانت هذه الأيام ، وإن كانت قليلة بحسب العدد ، لكنها طويلة بحسب المدة ، فلا جرم ما تمنّوا الموت بسبب الخوف.
السؤال الرابع : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ نهى عن تمنّي الموت فقال : «لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به ولكن ليقل : اللهمّ أحيني إن كانت الحياة خيرا لي وتوفّني (١) إن كانت الوفاة خيرا لي» (٢) وأيضا قال تعالى في كتابه : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال ، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟
السؤال الخامس : أنّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب ، وبين اللفظ الدّال على ذلك المعنى ، وهو قول القائل : ليتني متّ ، فلليهود أن يقولوا : إنك طلبت منا التمني ، والتمنّي لفظ مشترك ، فإن ذكرناه باللّسان ، فله أن يقول : ما أردت به هذا اللّفظ ، وإنما أردت به المعنى الذي في القلب ، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب ، فله أن يقول : كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه.
السؤال السادس : هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت ، فلم قلتم : إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) ضعيف ؛ لأن
__________________
(١) في أ : وأمتني.
(٢) متفق عليه من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الصحيح (١١ / ٣٥٧) كتاب الرقاق (٨١) باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (٤١) حديث رقم (٦٥٠٧) ومسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٦٥) كتاب الذكر والدعاء والاستغفار (٤٨) باب من أحب لقاء الله (٥) حديث رقم (١٤ / ٢٦٨٣) بسياق موجز دون ذكره السيدة عائشة رضي الله عنها ثم انفرد وساقه من رواية عائشة رضي الله عنها في (٤ / ٢٠٦٥ ـ ٢٠٦٦) حديث رقم (١٥ ، ١٦ / ٢٦٨٤) وفيه لفظه : والموت قبل لقاء الله وأبو داود في الجنائز باب ١٣ ـ والنسائي في السنن (٤ / ٣) وابن ماجه في السنن حديث رقم (٤٢٦٥) ـ وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٣) ، (٣ / ٢٥٨) ، (٥ / ١٠٩) ـ والحاكم في المستدرك (٣ / ٤٤٣) والطبراني في الكبير (٤ / ٧٤) ، (١٨ ، ٣٦). وأبو نعيم في الحلية (١ / ١٤٤ ، ١٤٥) ، (٤ / ١٤٧) والخطيب في التاريخ (٥ / ٢٣٥).