وقوله سادسا : ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه :
أحدها : لو حصل ذلك لنقل نقلا متواترا ؛ لأنه أمر عظيم ، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته ، وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة ، فوجب أن ينقل نقلا متواترا ، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد.
وثانيها : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع تقدّمه في الرأي والحزم ، وحسن النّظر في العاقبة ، والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهرا والموافق طوعا ، لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربّه بالوحي النازل عليه أن يتحدّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة ؛ لأن العاقل الذي لم [يعرف](١) الأمور لم يرض بذلك ، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أقدم على هذه الأدلة إلا بوحي من الله ـ تعالى ـ إليه بأنهم لا يتمنونه.
وثالثها : ما روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «لو تمنّوا الموت لشرقوا به ولماتوا» وقد نطق القرآن بذلك في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) أي : ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردّا على النبي صلىاللهعليهوسلم وإبطالا لحجّته. والحديثان المتقدّمان ، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر.
قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) خبر قاطع عن أنّ ذلك لا يقع في المستقبل ، وهذا إخبار عن الغيب ؛ لأن مع توفّر الدواعي على تكذيب محمد صلىاللهعليهوسلم وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك ، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه ، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي.
قوله : «أبدا» منصوب ب «يتمنّوه» ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير ، ماضيا كان أو مستقبلا.
قال القرطبي : كالحين والوقت ، وهو ـ هاهنا ـ من أول العمر إلى الموت تقول : ما فعلته أبدا.
وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان ، وذلك أنه يقال : زمان كذا ، ولا يقال : أبد كذا ، وكان من حقّه على هذا ألّا يثنى ولا يجمع ، وقد قالوا : آباد ، فجمعوه لاختلاف أنواعه.
وقيل : آباد لغة مولّدة ، ومجيئه بعد «لن» يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد ، وقد تقدم غير ذلك ، ودعوى التأكيد فيه بعيدة.
__________________
(١) في أ : يعرف.