الواحدة ، فقد خرج عن عهدة الأمر ، فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخا للأمر
__________________
ـ ولم يختلفوا أيضا في أنّ الأمر المقيّد بالمرّة ، أو التكرار يحصل على ما قيّد به ، إنّما وقع الخلاف بينهم في دلالة الأمر على ما زاد على القدر الّذي تتحقّق به الماهية ، إذا لم يكن مقيّدا بما يدلّ على التّكرار ، أو المرّة.
وقد تنوّعت مذاهبهم في ذلك إلى أربعة آراء :
أوّلا : وهو مذهب الجمهور من الأصوليّين واختاره أبو المعالي الجويني ، والرازيّ ، والبيضاوي والآمديّ ، وابن الحاجب ؛ حيث يرون أنه يدلّ على طلب تحصيل الماهيّة ، من غير إشعار بمرّة ، أو تكرار.
ثانيا : وهو مذهب أبي إسحاق الإسفراينيّ ، والإمام أحمد ، وعبد القادر البغدادي ؛ حيث يرون أنّ الأمر يوجب التّكرار المستوعب لجميع العمر مع الإمكان ، إذا لم يقترن بما يدلّ على خلاف ذلك.
ثالثا : وهو منقول عن بعض مشايخ الحنفيّة ، ورأي بعض الشّافعيّة ، ومقتضاه : أنّ الأمر المطلق يدلّ على المرّة ، ولا يوجب التّكرار ولا يحتمله ، إلا إذا علّق بشرط ؛ مثل قوله عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا).
رابعا : وإليه ذهب الواقفيّة حيث يرون التّوقّف : إمّا لأنه مشترك بينهما ، فلا يعمل على أحدهما إلّا بقرينة ؛ أو لأنّه موضوع لأحدهما ، ولا يعرف إلّا بالبيان.
والرّأي الذي نختاره هو رأي الجمهور ، ونستدلّ على ذلك بأدلّة منها :
لو كان الأمر مفيدا لأحدهما ، لكان تقييده بذلك المعنى تكرارا وبغيره نقضا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
دليل بطلان التالي : أن التقييد لا يؤدّي إلى النقض ، ولا إلى التكرار ، ودليل بطلان المقدم : أن بطلان اللازم المساوي أو الأخص يستلزم بطلان ملزومه.
ويرد عليه : بأنه لا يثبت المدعى ؛ لأن عدم التكرار أو النقض قد لا يكون لكونه موضوعا للماهية ؛ من حيث هي ، بل لكونه مشتركا أو لأحدهما ، ولا نعرفه كما قد قيل به ، فيكون التقييد للدلالة على أحدهما.
ولأنه ورد مع التكرار شرعا كالأمر في آية الصلاة ، وعرفا كقول الحاكم للمحكوم التزم بالضبط الحكوميّ.
وتارة المرة شرعا ؛ كالأمر في قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وعرفا ؛ كقولك : ادخل الدار ، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما ، وهو طلب الإتيان بالمأمور به ؛ دفعا للاشتراك والمجاز اللازمين من جعله موضوعا لكل منهما أو لأحدهما فقط ؛ لكونهما خلاف الأصل ؛ وحينئذ لا يفيد شيئا بهما ولا ينافيه ؛ لعدم استلزام العلم الخاص وعدم منافاته إياه.
ويرد على هذا الوجه : أن الأمر إن كان موضوعا لمطلق الطلب ، ثم استعمل في طلب الخاص ـ فيكون مجازا ، وبأن الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنية فإذا استعمل الأمر فيما تشخص منها في الخارج ، يكون مجازا ؛ لأنه غير ما وضع له فاستعمال الأمر المقيد ، أو المرة مجاز ، فالفرار من مجاز واحد يوقعه في مجوزين.
وللقطع بأن المرّة والتكرار من صفات الفعل ، كالقليل والكثير ، ومن المعلوم أن الموصوف بالصفات المتقابلة لا دلالة له على خصوصية شيء منها ، وإذا علم ذلك فمعنى اقرأ طلب لقراءة ما ، فلا يدلّ على صفة القراءة من تكرار أو مرّة.
كما أن الأمر المطلق لو كان للتكرار ، لعم جميع الأوقات ؛ لعدم أولوية وقت دون وقت ، والتعميم باطل لأمرين.
أحدهما : أنه تكليف بما لا يطاق.
والثاني : يلزم أن ينسخه كل تكليف يأتي بعده ، لا يمكن أن يجامعه في الوجود ؛ لأن الاستغراق الثابت بالأول يزول بالاستغراق الثابت بالثاني ، وليس كذلك.