وأما نسخ التلاوة دون الحكم ، فكما يروى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا
__________________
ـ على ذلك الاستثناء المذكور في قوله تعالى : («سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ ؛) إذ لو لم يتصور النسيان ، لخلا ذكر الاستثناء عن الفائدة ، والتالي باطل ، وهذا النوع لم يخالف فيه أحد.
«النّوع الثّاني» : ومعناه : أن يزال الحكم بنقل العباد منه ، ويبقى المنسوخ متلوّا ؛ وذلك مثل نسخ كل من الإيذاء باللّسان للزانيين الثابت بقوله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) وإمساك الزانيات الثابت بقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) بالجلد والرجم فيهما مع بقاء تلاوة النصين الدالين عليهما ، وأمثلة هذا النوع متعددة ؛ لأنه هو الكثير في كتاب الله ـ تعالى ـ.
من ذلك نسخ الاعتداد بالحول ، وقد تقدم ذكره ، ونسخ التخيير في الصوم ، ونسخ المسالمة مع الكفار ، وثبات الواحد للعشرة مع بقاء الآيات الموجبة لها.
وهذا النوع قال به جمهور الفقهاء والمتكلمين ، ولم يخالف في ذلك سوى فرقة شاذة من المعتزلة متمسكين بأن المقصود من النص حكمه المتعلق بمعناه ؛ إذ الابتلاء يحصل به ، والنص وسيلة إلى هذا المقصود ، فلا يبقى النصّ بدون حكمه ؛ لسقوط اعتبار الوسيلة عند فوات المقصد ؛ كوجوب الطهارة لا يبقى بعد سقوط الصلاة بالحيض.
ويجاب عن هذا التمسك : بأن ما يتعلّق بالنص من الأحكام على قسمين : قسم يتعلق بالنظم ؛ مثل جواز الصلاة ، والإعجاز ، وغيرهما ، وقسم يتعلق بالمعنى ؛ وهو ما يترتب عليه من الوجوب ، والحرمة ، ونحوهما ، فيجوز أن يكون أحدهما مصلحة دون الآخر ، فإذا انتسخ ما يتعلق بالمعنى ، جاز أن يبقى ما يتعلّق بالنظم ؛ لكونه مقصودا ؛ والدليل على أن ما يتعلق بالنظم يصلح مقصودا : أن في القرآن ما هو متشابه ، ولم يثبت به من الأحكام إلا ما يتعلّق بالنظم من جواز الصلاة والإعجاز ، فإذا حسن ابتداء إنزال القرآن له ، فالبقاء أولى ، فلصلاح الحكمين المذكورين لكونهما مقصورين ـ استقام بقاء النص ببقائهما ، أو ببقاء أحدهما. واعتراف الخلق برحمة الخالق ؛ حيث جعل لكل زمان من القوانين ما يناسبه ؛ ولكل أمة من الأمم ما يكفل لها سعادتها وراحتها ، لبقاء النص ماثلا بين أعينهم مسلوب الحكم ، بعد أن كان معمولا به ـ لأكبر دليل على أنه تولّى تربية الأمم ، وتدرج بهم إلى الكمال الذي أعده لهم ـ جل شأنه ـ ؛ بتغيير الحكم الذي كان يناسب علّة متأصلة في الأمة ، إلى حكم مناسب للدوام والاستقرار ، وبذلك يزداد شكرنا ، ويقوى امتثالنا للحكم ، واقتناعنا برحمته ، فقد يكون انتقالا إلى أخف ؛ فنشكر نعمة التخفيف ، وقد يكون انتقالا إلى حكم أشد من الأول ، فنشكر نعمة التهذيب لنفوسنا ، والتعويض للزيادة في ثبوتنا. فمن الأول : نسخ عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر بعد أن كانت حولا ؛ إذ لو بقيت الآية الأولى معمولا بها حتى الآن ، لكان ذلك مكرها فضليات النساء على التطوّح وراء المآرب الدنيئة ، لأن النّساء في الزمن الأول كنّ قادرات على الانتظار تلك المدة الطويلة ، فلما عيل صبرهنّ ، اقتضى النظام العادل أن يخفّف ذلك ؛ من الزمن الطويل الشاق إلى هذه المدة القصيرة السهلة ، ونسخ مصابرة الواحد عشرة في القتال بمصابرة اثنين ؛ وذلك لقلّة عدد المسلمين في صدر الإسلام ، فلما تضاعف عددهم ، وقويت شوكتهم ، زال ذلك المانع ، فخفف الله عليهم.
«ومن الثاني» : تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة في صدر الإسلام ، فجاءت الأحكام والآيات تستلها من نفوسهم رويدا رويدا ، حتى استقروا على المنع الباتّ ، وفي ذلك من حسن المعاملة ، وبديع الصنع ، ما لا يخفى على أحد ، سوى من حرم نعمة العقل ، فهذي من هذي.
«النوع الثالث» وهو نسخ التلاوة دون الحكم ومعناه : أن يزال النص الدال على الحكم بصرف الله ـ تعالى ـ القلوب عن حفظه ، مع بقاء العمل بالحكم ، وقد مثل بعضهم لهذا النّوع بقراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في كفارة اليمين : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» ولكن التمثيل بهذا ليس من هذا ـ