فرضنا القادر المريد منفكّا عن قوله : «كن» فإما أن يتمكّن من الإيجاد والإحداث ، أو لا يتمكّن ، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفا على قوله «كن» ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألّا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب «كن» فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القدرة ب «كن» وذلك نزاع لفظي.
الحجة الخامسة : أن «كن» كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة.
الحجة السادسة : أن لفظة «كن» ككلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدما على النون ، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما ؛ فإن كان الأول لم يكن لكلمة «كن» أثر ألبتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين ، وإن كان الثّاني فهو محال ؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة ؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثّاني حاصلا ، وحين جاء الثّاني فقد فات الأول ، وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة.
الحجة السابعة : قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] بين أن قوله «كن» متأخر عن خلقه ، إذ المتأخر عن الشّيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله : «كن» في وجود الشيء ، فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب ، فإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل وهو من وجوه :
الأول : أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه ـ تعالى ـ يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة.
الثاني : قال أبو الهذيل : إنه علامة يفعلها الله ـ تعالى ـ للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا.
الثالث : قال الأصم : إنه خاصّ بالموجودين الذين قال لهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥] ، ومن جرى مجراهم.
الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف ، والقوي هو الأول.
وقال الطبري رحمهالله : التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود ، ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلّا وهو موجود بالأمر ، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجود ، ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].