بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثا ، فقوله : «كن» لا يجوز أن يكون قديما ، ولا جائز أيضا أن يكون قوله : «كن» محدثا ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله : «كن» ، وقوله : «كن» أيضا محدث ، فيلزم افتقار «كن» إلى «كن» آخر ، ويلزم التسلسل والدور ، وهما محالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله : «كن» وأن قوله : «كن» إن [كان] خطابا له حال وجوده ، فتحصيل للحاصل ، قاله أبو الحسن الماوردي.
قال القرطبي رحمهالله : والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه خبر من الله ـ تعالى ـ عن نفوذ أوامره في خلقه ، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قردة خاسئين ، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات.
الثاني : أن الله ـ تعالى ـ عالم بما هو كائن قبل كونه ، فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني ، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود ؛ لتصير جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم.
الثالث : أن ذلك خبر من الله ـ تعالى ـ عام عن جميع ما يحدثه ويكوّنه ، إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولا ، كقول أبي النّجم : [الرجز]
٧٦٣ ـ إذ قالت الأنساع للبطن الحقي (١)
ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن.
وكقول عمرو بن هممة الدّوسيّ : [الطويل]
٧٦٤ ـ فأصبحت مثل النّسر طارت فراخه |
|
إذا رام تطيارا يقال له : قع (٢) |
وقال الآخر : [الرجز]
٧٦٥ ـ قالت جناحاه لساقيه الحقا |
|
ونجّيا لحميكما أن يمزقا (٣) |
الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب «كن» قبل دخوله في الوجود ، أو حال دخوله في الوجود ، والأول باطل ؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه.
والثاني أيضا باطل ؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه ـ تعالى ـ أمر الموجود بأن يصير موجودا ، وذلك أيضا لا فائدة فيه.
الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جمادا ، وتكليف الجماد عبث ، ولا يليق بالحكيم.
الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإرادات ، فإذا
__________________
(١) تقدم.
(٢) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٣.
(٣) ينظر القرطبي : ٢ / ٦٣.