لقي الله وهو عليه غضبان» (١) وليس المراد رؤية الله ؛ لأن ذلك وصف لأهل النار ، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. وفي العرف قول المسلمين : من مات لقي الله ، ولا يعنون أنه رأى الله ، وأيضا فاللقاء يراد به القرب ، فإن الأمير إذا أذن للشّخص في الدخول عليه يقول : لقيته ، وإن كان ضريرا ، وإذا منعه من الدّخول يقول : ما لقيته ، وإن كان قد رآه ، ويقا : لقي فلان جهدا ، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرّؤية ، وقال تعالى : (فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسم ، ولا يصح في [حق](٢) الله تعالى.
قال ابن الخطيب (٣) : أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللّغة : عبارة عن وصول أحد
__________________
ـ ومن معتمد أهل السنة في الجواز أيضا ـ قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ) الصابرين» ، وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) ، وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ،) وقال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) فترى أهل السنة أن اللقاء في هذه الآيات بمعنى الرؤية.
وبيان ذلك : أن اللقاء مشترك بين الوصول المكاني والوصول بالرؤية ؛ فيقال في الضرير : لقي الأمير ؛ إذا أذن له ، ويقال للبصير : لقيه ، بمعنى : رآه ، وما لقيه ، أي : ما وصل إليه ، والوصول المكاني محال على الله ـ تعالى ـ ، فيكون الوصول بمعنى الرؤية وهو المطلوب.
قالت المعتزلة : ما ذكرتموه يتنافى وقول الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) وبديهي أن المنافق لا يرى ربه ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ، وقوله تعالى في معرض التهديد : «وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» وهذا التهديد يتناول المؤمن والكافر ، والكافر لا يرى ربه.
كذلك يتنافى وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (من حلف على يمين ليقتطع به مال امرىء مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان) ولا يعقل أن المراد يرى ربه ؛ لأن ذلك وصف أهل النار.
أجابت أهل السنة : بأن اللقاء لغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يمسّه بسطحه ، يقال : لقي هذا ذاك ، إذا ماسّه واتصل به ، ولما كانت الملاقاة بين الجسمين المدركين سببا لحصول الإدراك ، وحيث امتنع إجراء اللفظ على المماسّة ، وجب حمله على الإدراك المسبب عن اللقاء الذي هو سبب له ، وإطلاق السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز.
وما ادّعيتموه من الآيات والحديث لم يحمل على الإدراك ، وإنما يحمل على إضمار لفظ الحساب ، أو الجزاء للضرورة ؛ بخلاف ما ذكرناه ، فلا ضرورة لصرفه عن ظاهره ، ولا لإضمار هذه الزيادة ، فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وإلى هنا تمّ الكلام على الدليل النقلي ، ودفع ما ورد عليه من قبل المعتزلة.
(١) أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٢٢٢) كتاب المساقاة باب الخصومة .. حديث (٢٣٥٦) ، (٢٣٥٧) وأخرجه مسلم في الصحيح (١ / ١٢٢ ـ ١٢٣) كتاب الإيمان (١) باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار (٦١) حديث رقم (٢٢٠ / ١٣٨ ، ٢٢٢ / ١٣٨) ..
وابن ماجه في السنن (٢ / ٧٧٨) كتاب الأحكام باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا ـ وأحمد في المسند (١ / ٤٤٢).
والبيهقي في السنن (١٠ / ١٧٨ ، ٢٥٤٣) ـ والطبراني في الكبير (١٠ / ١٣٢) وذكره الهيثمي في الزوائد (٤ / ١٨٣) ـ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٤٦٣٥٤.
(٢) سقط في ب.
(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٤٨.