__________________
ـ ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجودا ، كان واجب الوجود ، ولو أخذته بشرط كونه معدوما ، كان واجب العدم ، ولو أخذته من حيث هو مع قطع النظر عن كونه موجودا أو معدوما ـ كان ممكن الوجود ؛ فكذا هنا قد جعل الشرط هو استقرار الجبل ، كما يفيده منطوق الآية ، وهذا القدر ممكن الوجود.
وإذا تقرر ما ذكر ، تكون الرؤية جائزة الحصول ؛ بحكم التعليق على الممكن.
وأيضا لأهل السنة أن تختار الشق الثالث ـ وهو الاستقرار حال الحركة ـ بعد بيان المراد من الاستقرار حال الحركة ، فهو محال ؛ إذ حاصله الجمع بينهما ، ولا نسلّم أنه معلّق عليه ؛ إذ فيه زيادة بالإضمار ، وإن أرادوا الاستقرار حال الحركة ، أي : بدل الحركة ، فهو ممكن ، فحصول الحركة بدل السكون أمر ممكن ؛ ولهذا ذكر الله اندكاكه ، فقال (جعله دكّا) ولا يقال : جعله كذا إلا فيما يمكن أن يكون إلا كذا ، فثبت أنها علقت على ممكن.
نظير ذلك : قيام زيد حال قعوده ، وبالعكس ؛ فإنه ممكن بأن يقع أحدهما بدل الآخر ، لا بأن يجتمعا ، فإنه مسلم الاستحالة.
ولا يقال : إن مراد المعتزلة من الاستقرار حال الحركة ـ الغرض منه الاستحالة بالغير ، لا لذاته.
بيان ذلك : أن الاستقرار بعد النظر بدليل «الفاء» ، وحين تعلقت إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم استقراره عقيب النظر ، استحال استقراره ، وقد دفعه «السالكوني» فقال : إن استقرار الجبل حين تعلقت إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم استقراره أيضا ممكن ؛ بأن يقع بدله الاستقرار ، إنما المحال استقراره مع تعلق إرادة الله ـ تعالى ـ بعدم الاستقرار.
كذلك نظرت المعتزلة كبرى الدليل القائلة : والمعلق على الممكن ممكن ، وقالت : إن المعلق على الممكن يجوز أن يكون ممتنعا ؛ واستشهدت لهذا بأنه يصحّ أن يقال : إن انعدم المعلول ، انعدمت العلة ، مع أن العلّة قد تكون ممتنعة العدم بالذات ، مع إمكان عدم المعلول في نفسه ؛ كما في ذات الواجب بالنسبة إلى الصفات عند بعض المتكلمين ، فإنّ انعدام الصفات علة لانعدام الذات ، وهو ممتنع كما لا يخفى ؛ فثبت أن الممكن قد يستلزم المحال.
وأما قولهم : إن الممكن لا يستلزم المحال ، فالمراد منه :
أنه لا يستلزمه من حيث كونه ممكنا ، وإن استلزمه من حيث كونه ممتنعا بالغير ، فظهر أنه لا مانع من تعليق الرؤية الممتنعة على استقرار الجبل الممكن.
وأجابت أهل السنة ببيان المراد من كبرى الدليل (والمعلق على الممكن ممكن) : أن الممكن المعلق عليه الممكن الصّرف الخالي عن الامتناع مطلقا ، سواء أكان بالذات أم بالغير ، واستقرار الجبل من قبيل الممكن الصرف ، بخلاف إمكان عدم المعلول المعلّق عليه ، مع امتناع عدم علته ، فالتعليق بينهما بحسب الامتناع بالغير ، فإنّ استلزام عدم الصفات عدم الواجب ؛ من حيث إن وجوده واجب ، وعدمه ممتنع بوجود الواجب ؛ لذا كان التعليق هنا غير مفيد إمكان المعلق ، لأنه تعليق على ممتنع ، أما في موضوعنا : فلما كان المعلق عليه ممكنا صرفا ، لا يشوبه امتناع بوجه من الوجوه ، أفاد إمكان المعلق وإلا فلا فائدة في التعليق ؛ إذ عند وقوع المعلّق عليه الذي هو ممكن في نفسه ، أما أن يقع المعلّق والحالة هذه ، كان ممكنا ، وإن لم يقع ، فلا داعي للتعليق وإيراد شرط ومشروط ، فالمعلق منتف في حالتي وجود الشرط وعدمه ، وإن قيل : إن فائدة التعليق ربط العدم بالعدم ، مع السكوت عن ربط الوجود بالوجود ـ كان الرد هينا ، وهو خلاف المتبادر من اللغة ، لأنك إذا قلت : إن ضربتني ، ضربتك ، كان المراد منك الربط في جانبي الوجود والعدم معا ، لا في جانب العدم فقط. ـ