__________________
ـ السؤال عن الرؤية مع العلم بامتناعها صغيرة لا يمتنع مثلها على الأنبياء ـ قول فاسد لا يسيغه طبع سليم ، كيف وأنهم ما حكموا باستحالتها إلا لأنها تقتضي التجسيم ، وعلى ذلك لا يكون طلبها صغيرة والحالة هذه ، بل كبيرة يجب تنزيه الأنبياء عنها ، ولو سلم أنها صغيرة ، فالأنبياء معصومون من الصغائر بعد النبوة كما هو التحقيق.
إلى هنا تم الكلام عن الوجهة الأولى ، بالاستدلال بالآية الكريمة ، ودفع ما ورد عليها من الاعتراضات ، ولنتكلم بعد هذا على الوجه الثاني من وجه الاستدلال بالآية الكريمة لأهل السنة ، فنقول : إن الآية الكريمة تصرح بتعليق رؤية الذات الأقدس على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، فكذلك ما علق عليه يكون ممكنا ، بيان الدليل أن يقال : الرؤية علقت على ممكن ، وكل ما علق على ممكن ، فهو ممكن ؛ فالرؤية ممكنة ، أما دليل الصغرى ، فقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فهذا الجواب صريح في أن الله ـ تعالى ـ علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل من حيث هو أمر ممكن في نفسه ؛ وعلى ذلك تكون الرؤية قد علقت على أمر ممكن.
وأما دليل الكبرى وهي «وكل ما علق على الممكن فهو ممكن» : فالتعليق إذ معناه الإخبار بوقوع المعلق على تقدير وقوع المعلق عليه ، وهذا يقتضي أن يكون المعلق ممكنا ؛ إذ المحال لا يقع على شيء من التقادير أصلا ، فتكون الرؤية ممكنة ، وإلا لزم الخلف في خبر الله ـ تعالى ـ ، وأيضا لو صح أن يكون المعلق على الممكن مستحيلا ، لأمكن صدق الملزوم بدون صدق اللازم ، وليس بصحيح ، وإلا انعدمت قضية التلازم ، وقد ناقشت المعتزلة هذا الوجه ، كما ناقشت الأول ، فنظرت كلتا مقدمتيه ، وذكرت على الصغرى القائلة : «الرؤية علقت على ممكن» :
أننا لوعددنا الفروض التي يكون عليها المعلق عليه ، وهو استقرار الجبل ، لوجدنا أنها مستحيلة ، فيكون المعلق مستحيلا.
وبيان ذلك : أن استقرار الجبل إما حال السكون ، أو مطلقا غير مقيد ، وإما حال الحركة ، وبطلان الأول ظاهر ؛ لما يلزم عليه من وجود الرؤية ؛ لوجود الاستقرار الذي هو شرط بمقتضى التعليق.
كذلك الثاني ؛ فإن استقرار الجبل من حيث هو واقع في الدنيا ، فيلزم وقوع الرؤية المعلقة عليه فيها.
ولم يبق إلا الاستقرار حال الحركة ، وهو ممتنع ، وقد علقت الرؤية عليه ، فتكون ممتنعة ، يساعد على أن الرؤية علقت على الاستقرار حال التحرك : أن لفظة (إن) المذكورة في الآية إن دخلت على الماضي ، صار بمعنى المستقبل ، وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) ، أي : لو صار مستقرّا في المستقبل فسوف تراني ، ولم يحصل الاستقرار في الزمان المستقبل ، وإلا لوجب حصول الرؤية ؛ لوجوب حصول المشروط عند حصول الشرط الذي تتم به علّيه العلّة ، ولم يتحقق حصول الرؤية بالاتفاق ، فلم يستقر الجبل ، فيكون متحرّكا بالضرورة ، فالجبل حال ما علق الله الرؤية باستقراره كان متحركا ، واستقرار الجبل من حيث هو متحرك محال ، فالتعليق عليه لا يدلّ على إمكان الرؤية.
وقد أجاب أهل السنة باختيار الشقّ الثاني من الترديد ؛ وهو أن المعلق عليه استقرار الجبل من حيث هو ، ولا يلزم وقوع الرؤية كما زعمتم ؛ لأن الاستقرار ـ وإن لم يقيد بالحركة أو السكون ـ لكن لوحظ أن يكون في المستقبل ، وعقيب النظر ؛ بدليل «الفاء» و «إن».
وهو غير واقع فلا يلزم وقوع الرؤية.
وقد وجّه اختيار الشق الثاني أيضا : بأن اعتبار حال الجبل من حيث هو ـ مغاير لاعتبار حاله من حيث هو متحرك أو ساكن ، فهو مأخوذ لا بشرط شيء ، وهو يدل على الإمكان. ـ