أحدها : أنه ـ تعالى ـ ذمّهم عليها ، ولو كانت مخلوقة له لكانوا مطيعين بفعلها ؛ لأن الطّاعة عبارة عن فعل المراد.
وثانيها : لو كان العصيان مخلوق لله ـ تعالى ـ لكان الذّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود ، وأبيض ، وطويلا.
قال ابن الخطيب (١) : وهذا تمسّك بفعل المدح والذم ، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ، وقد تقدّم.
قوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ).
و «العفو» المحو ، ومنه : «عفا الله عنكم» أي : محا ذنوبكم ، والعافية : لأنها تمحو السّقم ، وعفت الريح الأثر ؛ قال : [الطويل]
٤٨٨ ـ فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها |
|
لما نسجتها من جنوب وشمأل (٢) |
وقيل : عفا كذا أي : كثر ، ومنه «وأعفوا اللّحى» فيكون من الأضداد.
وقال ابن عطية : «العفو تغطية الأثر ، وإذهاب الحال الأوّل من الذّنب أو غيره ، ولا يستعمل العفو بمعنى الصّفح إلا في الذنب». وهذا الذي قاله قريب من تفسير الغفران ؛ لأن الغفر التغطية والسّتر ، ومنه : المغفر ، ولكن قد فرّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة ، فيجتمع معها ، وأمّا الغفران فلا يكون مع عقوبة.
وقال الرّاغب (٣) : «العفو» : القصد لتناول الشّيء ، يقال : عفاه واعتفاه أي : قصده متناولا ما عنده ، وعفت الريح التّراب قصدتها متناولة آثارها ، وعفت الديار كأنها قصدت نحو البلى وعفا النّبت والشّعر قصد تناول الزّيادة ، وعفوت عنك كأنه قصد إزالة ذنبه صارفا عنه ، وأعفيت كذا ، أي : تركته يعفو ويكثر ، ومنه «أعفوا اللّحى» فجعل القصد قدرا مشتركا في العفو ، وهذا ينفي كونه من الأضداد ، وهو كلام حسن ؛ وقال الشاعر [الطويل]
٤٨٩ ـ .......... |
|
إذا ردّ عافي القدر من يستعيرها (٤) |
__________________
(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٧٢.
(٢) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه : ٨ ، والأضداد : ٩٣ ، خزانة الأدب : ١١ / ٦ ، والدرر : ١ / ٢٨٥ ، شرح شواهد المغني : ١ / ٤٦٣ ، مغني اللبيب : ١ / ٣٣١ ، والمنصف : ٣ / ٢٥ ، همع الهوامع : ١ / ٨٨ ، شرح المعلقات للتبريزي : (١٣) ، الشنقيطي : (٥٨) ، والدر المصون : ١ / ٢٢٤.
(٣) ينظر المفردات : ٣٥١.
(٤) عجز بيت للأعشى وصدره :
فلا تصر ميني واسألي ما خليقتي
ينظر ديوانه : (٣٧١) ، الكشاف : ٤ / ٣٩٣ ، والدر المصون : ١ / ٤٢٤.