فإن قيل : إن هذه النّعم إنما كانت على المخاطبين وأسلافهم ، فكيف تكون نعمة عليهم؟
فالجواب : لو لا هذه النعم على آبائهم لما بقوا ، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء ، وأيضا فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد ، وأيضا فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله ـ تعالى ـ خصّ آباءهم بهذه النّعم لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة ؛ لأنّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير ، فيصير هذا التذكر داعيا إلى الاشتغال بالخيرات.
قوله : (الَّتِي أَنْعَمْتُ).
«التي» صفة «النعمة» والعائد محذوف.
فإن قيل : من شرط [حذف](١) عائد الموصول إذا كان مجرورا أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف ، وأن يتّحد متعلقهما ، وهنا قد فقد الشّرطان ، فإن الأصل : التي أنعمت بها.
فالجواب : إنما حذف بعد أن صار منصوبا بحذف حرف الجرّ اتساعا فبقي «أنعمتها» وهو نظير : (كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩] في أحد الأوجه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
و «عليكم» متعلّق به ، وأتى ب «على» دلالة على شمول النعمة لهم.
قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).
هذه جملة أمرية عطف على الأمرية قبلها. ويقال : «أوفى» ، و «وفّى» ، و «وفى» ـ مشددا ومخففا ـ ثلاث لغات بمعنى ؛ قال الشاعر : [البسيط]
٤٢٩ ـ أمّا ابن [طوق] (٢) فقد أوفى بذمّته |
|
كما وفى بقلاص النّجم حاديها (٣) |
فجمع بين اللغتين.
وقيل : يقال : أوفيت ووفيت بالعهد ، وأوفيت الكيل لا غير ، وعن بعضهم : أن اللغات الثلاث واردة في القرآن.
أما «أوفى» فكهذه الآية.
وأما «وفّى» بالتشديد فكقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧].
وأما «وفى» بالتخفيف ، فلم يصرح به ، وإنما أخذ من قوله تعالى : (أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ،) وذلك أن «أفعل» التفضيل لا يبنى إلّا من الثلاثي كالتعجّب هذا هو المشهور ، وإن كان في المسألة كلام كثير ، ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشّاطبي (٤).
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في ب : بيض.
(٣) البيت لأمية بن أبي الصلت. ينظر ديوانه : (٥١) ، البحر : (١ / ٣٢٦) ، الكامل : (٢ / ١٨٧) ، الزجاج : (١ / ٩١) ، اللسان «عوف» و «قلص» ، الدر المصون : (١ / ٢٠٣).
(٤) القاسم بن فيره بكسر الفاء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ، ثم راء مشددة مضمومة بعدها هاء ومعناه ـ