فالجواب : أنه ذكر حال نفس بلدهم وبين تبديل ذلك بالخمط والأثل ثم ذكر حال خارج بلدهم وذكر عمارتها بكثرة القرى ثم ذكر تبديله ذلك بالمفاوز والبراري والبوادي بقوله : (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ، وقد فعل ذلك ويدل عليه قراءة من قرأ ربّنا بعّد بين أسفارنا على المبتدأ والخبر(١).
قوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي قدرنا سيرهم من هذه القرى وكان سيرهم في الغدو والرّواح على قدر نصف يوم فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار قال قتادة : كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلىء مكتلها من الثمار وكان ما بين اليمن إلى الشام كذلك (٢).
قوله : (سِيرُوا) أي وقلنا لهم سيروا ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي مكّنّاهم من السير فكانوا يسيرون فيها ليالي وأياما أي بالليالي والأيّام أي وقت شئتم «آمنين» لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا (٣).
وقيل : معنى (٤) قوله تعالى : (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) أنكم تسيرون فيه إن شئتم ليالي وإن شئتم أياما لعدم الخوف بخلاف المواضع المخوفة فإن بعضها يسلك ليلا لئلا يعلم العدو بسيرهم وبعضها يسلك نهارا لئلا يقصدهم العدو إذا كان العدو غير مجاهر بالقصد والعداوة فبطروا (٥) وطغوا ولم يصبروا على العاقبة وقالوا : لو كان جنى جنّاتنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه فقالوا : ربّنا بعّد بين أسفارنا فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرّواحل ونتزود فيها الأزواد. وقال مجاهد : بطروا (٦) النعمة وسئموا الراحة كما طلبت اليهود الثوم والبصل. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم (٧) كما يقول القائل لغيره : اضربني إشارة إلى أنه لا يقدر عليه ، ويحتمل أن يكون قولهم : (رَبَّنا باعِدْ) بلسان الحال أي لما كفروا فقد طلبوا أن يبعّد بين أسفارهم وتخريب المعمور من ديارهم ، وقوله : «ظلموا» يكون بيانا (٨) لذلك.
قوله : «ربّنا» العامة بالنصب على النداء. وابن كثير وأبو عمرو (٩) وهشام «بعّد»
__________________
(١) وهي قراءة ابن عباس وابن الحنفيّة وابن يعمر بخلاف والكلبيّ وعمرو بن فائد. انظر : المحتسب ٢ / ١٨٨ والرازي ٢٥ / ٢٥٢ وهي من الشواذ رواية لا قياسا وستأتي.
(٢) معالم التنزيل للبغوي ٥ / ٨٩ وكذلك لباب التأويل للخازن ٥ / ٢٨٩.
(٣) السابقان.
(٤) وهو قول الرازي ٢٥ / ٢٥٢.
(٥) تفسير البغوي السابق.
(٦) السابق.
(٧) في الرازي لا يقدر وهو والصحيح.
(٨) المرجع السابق.
(٩) انظر : تقريب النشر ١٦٦ والنشر ٢ / ٣٥٠ والكشف ٢ / ٢٠٧ وقال مكي : «والقراءتان بمعنى حكى سيبويه : ضعف وضاعف بمعنى فهو بمعنى التباعد». وانظر أيضا القرطبي ١٤ / ٢٩٠ ، والسبعة ٥٢٩ والإتحاف ٣٥٩ والكشاف ٣ / ٢٨٦ وإعراب النحاس ٤ / ٣٤٢ ومعاني الفراء ٢ / ٣٥٩.