قوله تعالى : (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا).
تأكيد للإنكار السابق وبيان السبب له ، والجملة حال من المنافقين ، أي : كيف تتفرّقون في شأنهم والحال أنّ الله أركسهم وقد ارتدّوا إلى الكفر.
ومادّة (ركس) تدلّ على التحوّل والانقلاب ، أي : قلب الشيء على رأسه وردّ أوّله إلى آخره ، وهو تارة : ظاهري ، كالردّ والقلب ، كما في النكس الّذي يكون الركس أبلغ منه ؛ لأنّ من يرمي منكسا في هوّة ، قلّما يتخلّص منها.
واخرى : معنوي ، كالتحوّل من الحالة العاديّة والفطرة المستقيمة إلى الحالة الرديئة ، كما حكى عنها عزوجل في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الملك ، الآية : ٢٢] ، وهذا هو الانقلاب من الفطرة المستقيمة إلى غيرها وهو الركس ، أي : التحوّل المعنوي والانقلاب من الهدي والصراط المستقيم الى الكفر والضلالة ، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.
والمعنى : أنّ الله تعالى رماهم منكّسين إلى الضلالة ، وحوّلهم من الإيمان إلى الكفر ؛ جزاء بما كسبوا من الخطايا والسيئات الّتي أفسدت فطرتهم ، فارتدّوا إلى الكفر وأوغلوا في الضلال وبعدوا عن الحقّ ، فلا يرجى منهم الخير والهداية ، ومثل هذا التعبير لم يرد في غير المنافقين ، وهو يكشف عن شدّة غيّهم وضلالهم وغورهم في الكفر ، وقد اهتمّ سبحانه وتعالى بالمنافقين وذكرهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم ، وأفرد لهم سورة خاصة ، وبيّن جميع ما يتعلّق بهم وكشف عن نواياهم وسوء سرائرهم.
وإنّما نسب عزوجل الركس إلى نفسه اهتماما بهم ، ولبيان أنّ الأعمال الاختياريّة الّتي ارتكبوها ما كانت لتؤثّر في نفوسهم إلّا بإرادة منه عزوجل ولسلب التوفيق منهم.