ثمّ إنّ المنفي من القرآن الاختلاف بجميع وجوهه ، وإنّما وصفه بالكثرة لأنّ الكلام مشتمل على جوانب متعدّدة ، فلا بدّ أن يكون الاختلاف كثيرا ، كما في كلّ كلام آدمي إذا كان مشتملا على وجوه متعدّدة ، فليس المراد نفي الاختلاف الكثير دون الاختلاف القليل اليسير ، وهذا واضح بأدنى تأمّل.
والمستفاد من الآية الشريفة أمور :
الأوّل : أنّ القرآن ممّا يناله الفهم العادي ، فلو لم يكن كذلك لما أمر سبحانه وتعالى الناس بالتدبّر والتأمّل فيه لمعرفة الحقّ ، وأن التأمّل فيه يهدي صاحبه إلى كون القرآن من عند الله تعالى العليم بمصالح عباده الّذي يهديهم بما يصلح أمرهم.
الثاني : أنّ ما اشتمل عليه القرآن الكريم ممّا تنادي به الفطرة وملائمة للمصلحة ؛ ولذا أوجب الكمال والهداية.
الثالث : أنّ القرآن الكريم كامل مكمّل من جميع الجهات ، لا يقبل الاختلاف ولا التغيير ولا التحوّل والنسخ ولا الابطال ولا التهذيب ولا التكميل ، فلا حاكم عليه أبدا ؛ لأنّ ذلك كلّه من شؤون الاختلاف ، فإذا كان منفيا عنه بالكلّية ، فلا يقبل القرآن أيّا منها ، ويستلزم ذلك أنّ ما فيه من الشريعة والأحكام باقية ومستمرة إلى يوم القيامة ، وهذا ما تؤكّده جملة من الآيات المباركة والسنّة الشريفة.
الرابع : أنّ القرآن لما كان كاملا لا بدّ أن يكون نازلا من عند الكامل المستجمع لجميع صفات الكمال ، الّذي لا يتصوّر النقص فيه أبدا ؛ لأنّ ما نزل من عنده كامل ، كما أنّه لا بدّ أن يكون من نزل عليه كاملا ؛ لأنّه يتحمّل أعباء التفسير والتوضيح والإبلاغ إلى الناس ، وإلّا استلزم الخلف ، وتدلّ عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم ، الآية : ٤].
الخامس : أنّ المنفي عن القرآن الكريم جميع وجوه الاختلاف ، كالاختلاف في الوصف واللفظ أو المعنى ، بتناقض الأخبار أو الوقوع على خلاف المخبر به وعدم