قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة فصلت ، الآية : ١١] ، أي : أنّ الله خلق الأرض كذلك كما خلق الشيطان هكذا ، مخبرا عن طبعه وسجيّته بصيغة القسم ، مصمما على إغواء البشر وإضلالهم.
ولا يخفى بعد ذلك ، فإنّ الظاهر أنّ المحاورة كلاميّة والمخاطبة شفهيّة ، حصلت بين الله تعالى وبين الشيطان ، وتدلّ عليه روايات كثيرة. وأمّا في التكوينيّات والحيوانات فإنّها إلهام وإبداع ، وقد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في ما تقدّم من هذا التفسير فراجع.
ثمّ أخبر عزوجل عن خطوات الشيطان المتتابعة في إضلال الإنسان وغوايته ، وهي خطوات دقيقة متقنة وليست اعتباطيّة.
قوله تعالى : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ).
هذه هي المرحلة الأولى من المراحل المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد الله تعالى ويستعبدهم ، ويتمّ بها فساد الإنسان والبشرية بإغواء الشيطان. وحقيقة هذه المرحلة هي إضلال عباده عزوجل وإبعادهم عن الطريق المستقيم الموصل إلى الحقّ وصرفهم عن العقائد الصحيحة.
وتحصل هذه المرحلة بأمور كثيرة ، منها تعمية الأمر عليهم ، وتلبيس الواقع ، وإظهار الباطل بمظهر الحقّ ، وطمسه بإشاعة الفساد والشرّ والشهوات ، وتزيين الباطل بأبهى صورة حتّى تحصل الحيرة والاضطراب في الإنسان. وقد حكي عزوجل عن هذه الأمور في كثير من المواضع في القرآن الكريم بصورة دقيقة شاملة وواضحة ؛ لتستفيد منها البشرية على مرّ العصور ؛ لأنّ هذه المرحلة من أدقّ المراحل الّتي يتّبعها الشيطان ليفسد فيها الإنسان ، قلّما يسلم منها فرد ، وكان الأنبياء يستعيذون بالله منها ويطلبون الاستقامة منه تعالى.