ولا يخفى أنّ في تعقيب هذه الآية الشريفة بقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) من اللطف ، فإنّه يستفاد منه أنّ الحسنة والسيئة اللتين تصيبان الإنسان لا دخل للاختيار فيهما أيضا ، فإنّ ذلك خاضع لإرادة البارئ عزوجل ومشيئته ، وإن كانت لأعمال الإنسان المدخليّة في تحقيق موضوعهما ، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
الخامس : يستفاد من قوله تعالى : (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) جواز اتّخاذ الحصون والقلاع والبلاد ونحو ذلك ، ليتمتع بها ويحفظ فيها الأموال والنفوس ، وهي من سنن الله تعالى في عباده ، هذا لا ينافي التوكّل على الله تعالى كما عرفت في بحث التوكّل ، فإنّ من حقيقته اتّخاذ الأسباب ثمّ ترك النتيجة إلى إرادة الباري عزوجل ، وهذه الآية المباركة ردّ لمن زعم أنّ التوكّل يكون بترك الأسباب.
السادس : يدلّ قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أنّ لبعض الاعتقادات والأقوال الأثر في سلب فهم الإنسان وتكون سببا في منع وصوله إلى الحقيقة والواقع ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى من يرشده إليها ، وهم الأنبياء والمرسلون. ويدلّ على ذلك ذيل الآية الكريمة ، قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) ، فإنّ الرسول يرفع الجهل بما يبلغه عن الباري عزوجل ويزيل الغشاء عن الفهم.
السابع : يستفاد من قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) منظما مع قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، أنّ هنا حقيقتين لا بدّ من الالتفات إليهما والاهتمام بهما ، وإلّا اتّصفنا بسوء الفهم وشملنا قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ، والحقيقتان هما :
الأولى : أنّ كلّ شيء من الله تعالى ؛ لأنّه خالق الأشياء وربّ العالمين ، يعلم خصوصيات الأشياء وآثارها ، وقد وضع نظاما دقيقا متقنا للوصول إليها ، ولا بدّ للإنسان أن يسعى لمعرفتها ، وبدون ذلك لا فائدة في سعيه ويلحقه الضرر والأذى ،