ويستفاد من سياق الآية الشريفة أنّها نزلت في قوم اعتادوا على الخيانة وارتكاب الإثم وانهمكوا فيه ، فنهى النبيّ صلىاللهعليهوآله عن أن يكون خصيما لهم ، وأن يجادل عنهم لأجل خيانتهم ، فهو تعالى يبغضهم لذلك وينهى عن المدافعة عنهم ، فلا فرق في الحكم بين قليل الخيانة وكثيرها ، فإنّهما على حدّ سواء عنده عزوجل.
قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ).
بيان لأهمّ سجاياهم الّتي امتاز بها هؤلاء الخوانون الآثمون. منها : استتارهم عن الناس واستحياؤهم منهم عند ارتكاب الخيانة والآثام ، وعدم استتارهم عن الله تعالى لأنّهم أمنوا عقابه ، فلا إيمان لهم ؛ لأنّ الإيمان جنّة واقية يمنعهم عن ارتكاب واقتراف الإثم ، وهو أحقّ من أن يستخفى عنه ويستتر منه.
وإنّما عبّر عزوجل بالاستخفاء منه تعالى وهو عليم بمنويات الصدور ولا تخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ تنزيلا على زعمهم ، فإنّهم كانوا على درجة ضعيفة من الإيمان ، فلم يعتقدوا مراقبة الله تعالى لهم ، فبيّن عزوجل لهم هذه الحقيقة.
ومن ذلك يعرف أنّه لا وجه لارتكاب المجاز في المقام والقول بأنّ المراد من الاستخفاء منه تعالى الاستحياء ، فإنّه وإن كان صحيحا ، لكنّه خلاف السياق.
وممّا ذكرناه يعلم الوجه في ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الاستخفاء من الله تعالى أمر غير مقدور ، إذ لا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء ، فطرفه المقابل له ـ اعني عدم الاستخفاء ـ أيضا أمر اضطراري غير مقدور ، وإذا كان كذلك لم يتعلّق به لوم ولا تعيير ، كما هو ظاهر الآية الشريفة ، فالظاهر أنّ الاستخفاء كناية عن الاستحياء ؛ ولذلك قيّد قوله : (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) بقوله : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) ، الدالّ على أنّهم كانوا يدبّرون ما لا يرضى من القول ، أي : التبرّي من هذه الخيانة المذمومة ، كما قيّده عزوجل بقوله : (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) ، الّذي يدلّ على إحاطته تعالى بهم