وأنّه ليس لحميّة ولا عصبيّة ولا للحظوظ الدنيويّة ، وأنّ الفائدة المتوخّاة منه هي الأجر العظيم في الآخرة ، لا يعلم أحد كميّته ولا كيفيّته إلّا الله تعالى ، وقد ذكر عزوجل أنّ العاقبة المحمودة من الجهاد إمّا القتل أو النصر ، وعلى كلتا الحالين فللمجاهد الأجر العظيم.
وإنّما قدّم عزوجل القتل مع أنّ المقام مقام الحثّ والتشجيع ، وهو يقتضي ذكر النصر أوّلا ، وتأخير ذكر القتل الّذي تنفر منه النفوس ؛ للإرشاد إلى أنّ المؤمن ينبغي أن يكون همّه أحد الأمرين ، إمّا إكرام نفسه بالقتل والشهادة ، أو إعزاز الدين بالنصر ، ولا يحدّث نفسه بالهرب كما كان عليه المبطئون ، وأنّه لا بد له من الثبات والعزيمة والتجرّد عن المادّة والخلوص لله تعالى ، فلا يغري نفسه بالنصر فقط ، بل يوطّنها على القتل.
ومن ذلك يعلم أنّه لم يذكر عزوجل الاحتمال الثالث ـ وهو الانهزام ـ لأنّ المؤمن قوي العزيمة ثابت على الإيمان ، لا ينهزم ولا يحدّث نفسه بالهزيمة ؛ لأنّها خيانة ، والمؤمن بريء منها.
ومن هذه الآية الشريفة نستفيد أمرا تربويّا دقيقا ، فإنّ الله تعالى إنّما وضع الجهاد وكتب القتال على المؤمنين ؛ لأجل التجرّد الكامل لله تعالى ، وبيع الحياة الدنيا بما فيها من رغبة النصر والاستيلاء على أعداء الله تعالى ، حتّى يحظى برضوان الله تعالى ويشتري بها الحياة الآخرة ، فكأنّ ذكر القتل ابتداء وقع من ذكر النصر ، وله الأثر الكبير في النفوس وتشجيع الهمم وحثّ المتثاقلين ، فإنّ الّذي يذهب للجهاد ليموت ، لن يتغيّر موقفه حتّى يرزق النصر ، بخلاف من يذهب للنصر والغنيمة ، فإنّه يتغيّر موقفه حين يقابل الموت ، فيحدّث نفسه بالهزيمة.
قوله تعالى : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
أي نعطيه الأجر العظيم ولا يفوته ذلك ، وفي الالتفات مزيد حثّ وترغيب ، وإنّما وصف الأجر بكونه عظيما ؛ لأنّه لا يعرف حدوده في الكم والكيف أحد إلّا