(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [سورة الأنفال ، الآية : ٦١] ، أي : مالوا إلى الصلح. ثمّ سمّى كلّ إثم جناحا. ونفي الجناح لا ينافي وجوب القصر لو تحقّقت شروطه المذكورة في السنّة ، فإنّه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفيّة ، ومن آداب الملوك نفي البأس والحرج عن الشيء وإرادة الأمر به وطلب الإلزام ، لو كان في مقام التشريع أو دفع توهّم الحظر كما يأتي.
والقصر ـ بالفتح ـ كعتب خلاف المد ، يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه ، ومنه قوله تعالى : (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [سورة الفتح ، الآية : ٢٧] ، وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [سورة الصافات ، الآية : ٤٨] ، وهي الّتي لا تمدّ نظرها إلّا إلى زوجها ، فلم يطمحن النظر إلى غيرهم ، والتعبير بنقص بعض ركعات الصلاة بالقصر من اللغة العالية الّتي جاء بها الكتاب العزيز.
والمفعول محذوف تقديره (شيئا) ، و (مِنَ الصَّلاةِ) صفة وبيان له.
والمعنى : فإذا سافرتم فلا حرج ولا مانع من أن تنقصوا شيئا من الصلاة ، وقيل : الصلاة مفعول تقصروا و (من) زائدة. والمراد من الصلاة جنسها ، فيشمل كلّ صلاة إلّا ما خرج بالدليل ، كصلاة الصبح وصلاة المغرب ، ويختصّ القصر بالصلاة الرباعيّة بتنصيفها. كما أنّ إطلاق الأرض يشمل كلّ أنحائها من البر أو البحر أو الجوّ ، كما أن عموم الضرب يشمل كلّ سفر إلّا ما خرج بالدليل كسفر المعصية ، فتشمل سفر الطاعة وسفر المباح وغيرهما.
وتقدّم أنّ نفي الجناح الدالّ على الجواز بوحده لا ينافي الوجوب إذا كان في مقام التشريع أو دفع توهّم الحظر ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٨] ، فإنّه كما عرفت أنّ الطواف واجب والتعبير بنفي الجناح ـ مع أنّ المقام مقام فرض ووجوب ـ لأجل أنّ الإتمام لما كان عادة عندهم وقد ألفوه واعتادوا